❞ كتاب الحوار أفقا للفكر ❝  ⏤ طه عبد الرحمن

❞ كتاب الحوار أفقا للفكر ❝ ⏤ طه عبد الرحمن

ساهمت موجة الحداثة الغربية في تردي الواقع الفكري العربي، من خلال تغييبها للإبداع، وفرضها أدواتها المنقولة على هذا الفضاء الفكري العربي، ما أدى إلى تشتيت المفكرين العرب، وقطع وشائج الصلة بينهم وبين تراثهم، فباتت لغة الحوار معدومة في هذا الفضاء، وهو ما ساهم في تكريس حالة التردي هذه، فأصبح كل ما يحدث هو من قبيل الجدل العقيم، وصارت الساحة بحاجة إلى يقظة فكرية تقوم على أسس وقواعد تعالج الخلل، وتسير بالفكر العربي إلى طريقه الصحيح الذي يولد ثقافة منتجة موصولة بتراثها الأصيل.

وفي هذا الكتاب “الحوار أُفقًا للفكر”، يجتهد العلاّمة المغربي الفيلسوف طه عبد الرحمن في تشخيص الوضع الفكري العربي المعاصر، واضعًا يده على مكامن الخلل فيه، ومقترحًا السبل الكفيلة بالقضاء على كل الآفات التي ضربت ذلك الفضاء الفكري العربي.

تيه عظيم
يبدأ عبد الرحمن كتابه بمقدمة يتساءل فيها عن توصيف الحالة الفكرية، وما إذا كانت تعبيراً عن أزمة فكرية، أو مظهر من مظاهر هزيمة فكرية، أم أن ما يعانيه العرب هو مجرد فراغ فكري، أو حالة من العجز، ولا ينتظر فيلسوفنا طويلاً في سياق الإجابة على هذه التساؤلات، رافضًا في الوقت نفسه كل هذه التوصيفات.

ويؤكد عبد الرحمن أن الوضع الفكري العربي ما هو إلا “تيه عظيم في عالم الأفكار” منع اجتماع المفكرين على كلمة سواء، ووقف حائلاً دون التفكير، وإطالة التفكير، كما أنه خلق حالة من شتات الأفكار نتيجة التقليد.

ويدعو العلامة المغربي، في كتابه، إلى ضرورة السعي من أجل الخروج من هذا التيه الفكري، الذي طال أمده، وإلا هلكنا، موضحًا أن “هذا الخروج لن يتأتى لنا إلا بالاهتداء إلى الأهداف الصالحة، والوسائل النافذة”.

والاهتداء إلى الأهداف الصالحة يكون بتفكير الجماعة الكثيرة، وليس الفرد الواحد، هذا النوع من التفكير – حسب المؤلف- هو الذي يولد الأفكار الكبرى، فالأصل في التفكير الكبير أن يكون تفكيرًا في مقاصد الأمور، والمبادرة باستنباطها من ظواهرها.

أما الاهتداء بالوسائل النافذة فإنه يكون بإطالة التفكير الذي يولد الأفكار الطُولى والتفكير في الوسيلة يزيد على التفكير في الهدف درجة، ولا تكون أنفذ الوسائل إلا من هذه الأفكار الطُولى، لأن الأصل في ذلك التفكير الطويل أن يفكر المرء في عواقب الأمور، فيبادر بتداركها من أمنبعها، والفكرة الكبرى تحتاج في تحققها إلى الفكرة الطُولى.

وكتاب “الحوار أُفقًا للفكر” هو عبارة عن أحاديث وحوارات أجراها عبد الرحمن مع قنوات فضائية ومثقفين، تناولت عدداً من الموضوعات التي دارت جميعها حول كيفية جمع المفكرين على كلمة سواء، وكيفية النهوض بالواقع الثقافي وعلاجه من الآفات التي ساهمت في ترديه.

ولقد جاء كتاب عبد الرحمن بمثابة دعوة إلى التفكير، واجتهاد في كيفية صنع يقظة فكرية قائمة على الإبداع وليس التقليد، وهو يقسم الكتاب إلى عشرة فصول، تناول كل فصل منها جانباً من جوانب هذه القضية التي كرس لها مشروعه الفكري الكبير.

في الفصل الأول من كتابه، يستعرض الكاتب جانبًا من سيرته الفكرية والمهنية، موضحًا الأسباب التي دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر، والتفرغ للفلسفة، ومن ثم الدخول في تجربة روحية عميقة.

ويكشف عبد الرحمن عن أن هزيمة يونيو عام 1967 كانت في مقدمة الأسباب التي دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر، وأنها أصابته بزلزال شديد وجعلته على يقين بأن سبب هذه الهزيمة هو خلل أصاب العقل العربي، مشيرا إلى أن تكوينه الفلسفي جعله يتيقن من أن العقل الذي هزم العرب هو عقل محدود.

“إن الأمة الإسلامية مؤهلة لعقل أوسع، من هذا العقل الذي هزمها، لكنها لم تقم بواجب هذه المسئولية”، هكذا تبين للمؤلفـ، فدفعه ذلك لأن يسعى في طلب الحقيقة، وراء حدود المنطق، ويدخل في تجربة روحية خالصة.

ويؤكد عبد الرحمن في هذا الفصل أن ثمار هذه التجربة الروحية التي عاشها، كانت توسيع مداركه وآفاقه وتغيير المعارف التي اكتسبها من قبل عن طريق العقل المجرد، المحدود، الذي كان سببا في الهزيمة العربية.

وينتقل فيلسوفنا إلى الفصل الثاني من كتابه مؤكدًا أن الأصل في الكلام هو الحوار، وأن حقيقة الكلام، الذي تكلم به الإنسان الأول، كانت حقيقة حوارية، لأن للحوار أهميات عديدة.

والأهمية الأولى للحوار – في تقديره- هي الأهمية الآلية، فالحوار يعطي حقوقًا ويُلزم بواجبات، فهو يعطي حق الاعتقاد والقول والانتقاد، وهناك أهمية ثانية وهي أهمية داخلية، فالحوار يعود بنا إلى الأصل. أما الأهمية الخارجية فتقوم في ضرورة الحوار مع الآخرين على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم.

ويعتبر عبد الرحمن أن المسلم ينبغي ألا يخشى الحوار على الإطلاق لأسباب كثيرة، أولها القوة الاستدلالية الموجودة في النص الديني الاسلامي، والتي لا نظير لها في النصوص الدينية الأخرى، مؤكدًا أنه لو تمكن المسلم من ضبط هذه القوة الاستدلالية وامتلك آلياتها لصار قادرًا على مواجهة أي حوار مع أي جهة، سواء كانت متدينة أو غير متدينة.

والسبب الثاني الذي يجعل المسلم لا يخشى الحوار، هي قدرته بفضل استثمار الرصيد الاستدلالي الموجود في العلوم الشرعية الإسلامية، على مواجهة أي تحد منطقي قد يواجهه في حياته.

و”مفهوم العقل” هو الموضوع الذي يدور حوله الفصل الثالث من الكتاب، وفيه يتحدث عبد الرحمن عن رؤيته لهذا المفهوم، مستندًا في ذلك إلى آيات القرآن الكريم، ومؤكدًا أن العقل إنما هو فعل من أفعال القلب. وهنا يتعرض فيلسوفنا لمصطلح خاص به هو “التكوثر”، والذي يعني به العلاقة الموجودة بين العقل والتعدد، فالقلب – حسب وجهة نظره- ذات أو قوة لا تبقى على حال واحدة، لأنها تتحول وتتقلب باستمرار، أما العقل الذي هو فعل خاص بالقلب فيكون متقلبا بتقلب القلب نفسه.

والعقل الأسمى، أو الأكمل، هو الذي يستطيع أن يتلقب أقصى ما يمكن التقلب، لأن القلب تتوارد عليه أحوال متعددة، ولا بد أن تنعكس هذه الأحوال المختلفة في أفعال الإنسان.

ويرفض عبد الرحمن، في الفصل الرابع من الكتاب، التصور الذي هيمن على الفلسفة العالمية، والذي يدعي أصحابه أن الفلسفة هي “نظر استدلالي”، لا حاجة فيه إلى استخدام العقل النظري، للوصول إلى الحقائق، سواء أكانت حقائق متعلقة بالغيبيات، أو بالسلوكيات،
ويؤكد الكاتب أن هذا التصور يخلّ بمقتضى منطقي، وهو أن النظر المجرّد لا يمكن أن يحكم إلا على المجرّدات، وليس على السلوكيات، لأنه يحتاج أن يتحقق بالخصائص السلوكية، لكي يتمكن من الحكم عليها، وهذا يعني أنه لا بد للفلسفة من أن تكون مصحوبة بالعمل.

ويدعو عبد الرحمن، في هذا الموقع من الكتاب، إلى إعادة النظر في بعض المسلمات المتداولة بشأن الأخلاق، لأن التصور الذي يسود عن الفلسفة، هو تصور نظري، وعلم الأخلاق نفسه، يعتبر مبحثًا نظريًا.

الهوس بالإبداع
ينتقد المؤلف في الفصل الخامس حالة غياب الإبداع من الساحة الفكرية، ويؤكد أنه مهموم بقضية الإبداع إلى “حد الهوس”، وأننا كأمة أولى بهذا الهوس من غيرنا لأنه دليل على الصحة، واصفًا الهمّ بالإبداع بأنه “حياة، ومن دونه تصير الأمة ميتة”.

ويستعرض عبد الرحمن هنا مفهومه للإبداع بقوله إن الإبداع يتضمن معنى زائدًا على الابتكار وهو “الجمال”، وعليه فالمبدع من وجهة نظره هو الذي ينشئ أشياء يتحقق فيها معنى الجمال، ولا يكون المبدع مبدعًا بحق حتى ينشئ الأشياء إنشاءً جماليًا. ويرى أنه لا يمكن تحقيق الابتكار الذي يخرج بنا إلى التحديث النافع، إلا إذا قامت بيننا وبين ما نبدعه علاقة جمالية، أو تعامل جمالي، بمعنى أن يتحول التحديث نفسه إلى قيمة جمالية.
وينتقد فيلسوفنا الترجمة الفلسفية العربية التي وقعت في فخ التقليد وغاب عنها الإبداع وأي قيمة جمالية، فجاءت العبارات ركيكة، وأصبح النص صعبًا على الفهم يحتاج إلى شرح طويل.

ويواصل نقده للواقع الفلسفي العربي، فيؤكد في الفصل السادس من الكتاب أن ما يحدث في هذا الواقع هو نقل للحداثة الغربية، وهذا النقل شأنه شأن الترجمة، فهو نقل لا ابتكار ولا جمال فيه، طارحًا مجموعة من المبادئ التي يمكن من خلالها التخلص من هذه الآفة وبناء حداثة إسلامية قائمة على الإبداع.

ومن ثم يشرح المؤلف في الفصل السابع مفهومه لـ”الحداثة” والمبادئ التي يرى أنها تقوم عليها، معتبراً أن الحداثة الغربية فشلت في قطع صلتها نهائياً بالأخلاق الدينية، مدللاً على ذلك بأنها حاولت أن تحقق انفصالات محددة.

وأول هذه الانفصالات هو الانفصال عن سلطة الكنيسة الكاثوليكية مع حفظ الصلة بالدين المسيحي، وثانيها الانفصال عن المسيحية مع حفظ الصلة بمبدأ الدين، ثم يأتي انفصال ثالث عن مبدأ الإيمان الديني، ولكن مع حفظ الصلة بالأخلاق التي يتضمنها الدين.

أما بالنسبة للحداثة العربية، فيؤكد عبد الرحمن أنه لا توجد “حداثة عربية”، وأن الحداثيين العرب هم أصلاً مقلدون صريحون، لأن شرط تحقق هذه الحداثة، هو الإبداع، وهذا الأخير غير موجود في الواقع الفكري العربي.

وإذا كان الوضع كذلك كيف يحقق العربي استقلاله الفلسفي؟
يجيب عبد الرحمن في الفصل الثامن من الكتاب على هذا التساؤل، موضحًا أن هناك موانع كثيرة تعيق العربي عن التفلسف، تتمثل في جملة من التصورات. وأول هذه التصورات هو التصور الذي يدعي أصحابه أن الفلسفة كونية، وأنها لا يمكن أن تقوم على أساس خصوصية معينة، والثاني هو التصور الذي يزعم أصحابه أن منهج الفلسفة هو العقل الخالص، أما المانع الثالث فهو التصور الذي يجعل من الفلسفة محل تقدير بلغ حد التقديس.
ويرى عبد الرحمن أن مثل هذه التصورات تعيق الإبداع، داعيًا إلى مراجعتها كخطوة أولى يخطوها “المتفلسف العربي” نحو إبداع فلسفة خاصة به، على اعتبار أن “الخصوصية لا تحط من قدر الفلسفة”.

لا إبداع بغير تراث
ونصل إلى نقطة بالغة الأهمية في الكتاب، وهي أن الإبداع يجب أن يكون موصولاً بالتراث، وهذا ما يؤكد عليه فيلسوفنا، في الفصل التاسع من كتابه، فمن وجهة نظره، لا إبداع بغير تراث، ولا هوية أيضًا بغير تراث.

ويؤكد الأكاديمي المغربي أن التراث هو بمثابة “المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتد في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل. أما إذا أصبح هذا الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود فإن هذا يُضر بالهوية وبالإبداع معًا.

ويعتقد عبد الرحمن في هذا الفصل من كتابه أن الغرب لم ينقد تراثه كما تولى المسلمون نقد تراثهم، مدللاً على ذلك بما يسمى بـ”النهضة الأوروبية” وهي عبارة عن عودة إلى التراث اليوناني بدون نقد.

أما ذلك النقد الذي حدث في بداية هذه “النهضة الأوربية” فقد كان نقدًا للتراث وللسلطة الكنسية المطلقة.
ويشير إلى أن الغرب كان يعتبر تراثه دائما جزءاً من هويته، وجزءًا من الطاقة الابداعية التي يمتلكها، موضحًا أن الاشتغال الغربي بالتراث كان تأييدًا لمقوماته وإحياءً لقيمه.

أما نقد العرب والمسلمين لتراثهم، فكان يهدف إلى إلغائه كليًا، والدعوة إلى الانفصال عنه بحجة أنه لا يمكن دخول عصر الحداثة إلا بـ”القطيعة” مع هذا التراث.

ويخلص عبد الرحمن في هذا المقام إلى أن الوصل بين التراث والمعاصرة يتم باستكشاف الروح التي تحكمت في التراث، وفي انتاجه، وهذه الروح هي عبارة عن قيم ومبادئ وأصول ينبغي أن يجري استخراجها والتوسل بها من أجل الدخول إلى الحداثة.

وفي الفصل العاشر والأخير من الكتاب، يؤكد عبد الرحمن أن الحداثة تُبنى على مبادئ وقيم، هي بمنزلة روحها، وأن “تطبيق هذه الروح صحبه مسلمات ليست من الحداثة في شيء، ولكن الغرب نسبها إلى الحداثة”. ويدعو فيلسوفنا إلى ضرورة صرف هذه المسلمات الناتجة عن التطبيق الغربي لروح الحداثة.

أما تصوره الخاص لهذه الروح، فيقوم على مبادئ ثلاثة، هي “مبدأ الرشد”، و”مبدأ النقد”، و”مبدأ الشمول”، أما غير ذلك فيعتبره مسلمات خاصة بالمجتمع الغربي مثل “العقلانية المجردة”، و”العلمانية”، و”الفردانية”.

وينهي العلامة المغربي كتابه بملحقين تناول في الأول قضية “حرية التعبير وحق الاختلاف” موضحًا الضوابط التي يجب أن تحكمهما، أما الملحق الثاني، فيتناول فيه التحديات التي تواجه الحوار وهي “سيادة الحضارة واحدة”، و”وجود الإرهاب المتعدد” في عالمنا المعاصر. طه عبد الرحمن - طه عبد الرحمن (1944 بالجديدة)، فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.


❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ❝ ❞ سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ❝ ❞ روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية ❝ ❞ الحوار أفقا للفكر ❝ ❞ تجديد المنهج في تقويم التراث ❝ ❞ سؤال العمل: بحث في الأصول العملية في الفكر والعلم ❝ ❞ التأسيس الائتماني لعلم المقاصد ❝ الناشرين : ❞ المركز الثقافي العربي ❝ ❞ الشبكة العربية للأبحاث والنشر ❝ ❞ مركز نهوض للدراسات والنشر ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.


اقتباسات من كتاب الحوار أفقا للفكر

نبذة عن الكتاب:
الحوار أفقا للفكر

2013م - 1445هـ
ساهمت موجة الحداثة الغربية في تردي الواقع الفكري العربي، من خلال تغييبها للإبداع، وفرضها أدواتها المنقولة على هذا الفضاء الفكري العربي، ما أدى إلى تشتيت المفكرين العرب، وقطع وشائج الصلة بينهم وبين تراثهم، فباتت لغة الحوار معدومة في هذا الفضاء، وهو ما ساهم في تكريس حالة التردي هذه، فأصبح كل ما يحدث هو من قبيل الجدل العقيم، وصارت الساحة بحاجة إلى يقظة فكرية تقوم على أسس وقواعد تعالج الخلل، وتسير بالفكر العربي إلى طريقه الصحيح الذي يولد ثقافة منتجة موصولة بتراثها الأصيل.

وفي هذا الكتاب “الحوار أُفقًا للفكر”، يجتهد العلاّمة المغربي الفيلسوف طه عبد الرحمن في تشخيص الوضع الفكري العربي المعاصر، واضعًا يده على مكامن الخلل فيه، ومقترحًا السبل الكفيلة بالقضاء على كل الآفات التي ضربت ذلك الفضاء الفكري العربي.

تيه عظيم
يبدأ عبد الرحمن كتابه بمقدمة يتساءل فيها عن توصيف الحالة الفكرية، وما إذا كانت تعبيراً عن أزمة فكرية، أو مظهر من مظاهر هزيمة فكرية، أم أن ما يعانيه العرب هو مجرد فراغ فكري، أو حالة من العجز، ولا ينتظر فيلسوفنا طويلاً في سياق الإجابة على هذه التساؤلات، رافضًا في الوقت نفسه كل هذه التوصيفات.

ويؤكد عبد الرحمن أن الوضع الفكري العربي ما هو إلا “تيه عظيم في عالم الأفكار” منع اجتماع المفكرين على كلمة سواء، ووقف حائلاً دون التفكير، وإطالة التفكير، كما أنه خلق حالة من شتات الأفكار نتيجة التقليد.

ويدعو العلامة المغربي، في كتابه، إلى ضرورة السعي من أجل الخروج من هذا التيه الفكري، الذي طال أمده، وإلا هلكنا، موضحًا أن “هذا الخروج لن يتأتى لنا إلا بالاهتداء إلى الأهداف الصالحة، والوسائل النافذة”.

والاهتداء إلى الأهداف الصالحة يكون بتفكير الجماعة الكثيرة، وليس الفرد الواحد، هذا النوع من التفكير – حسب المؤلف- هو الذي يولد الأفكار الكبرى، فالأصل في التفكير الكبير أن يكون تفكيرًا في مقاصد الأمور، والمبادرة باستنباطها من ظواهرها.

أما الاهتداء بالوسائل النافذة فإنه يكون بإطالة التفكير الذي يولد الأفكار الطُولى والتفكير في الوسيلة يزيد على التفكير في الهدف درجة، ولا تكون أنفذ الوسائل إلا من هذه الأفكار الطُولى، لأن الأصل في ذلك التفكير الطويل أن يفكر المرء في عواقب الأمور، فيبادر بتداركها من أمنبعها، والفكرة الكبرى تحتاج في تحققها إلى الفكرة الطُولى.

وكتاب “الحوار أُفقًا للفكر” هو عبارة عن أحاديث وحوارات أجراها عبد الرحمن مع قنوات فضائية ومثقفين، تناولت عدداً من الموضوعات التي دارت جميعها حول كيفية جمع المفكرين على كلمة سواء، وكيفية النهوض بالواقع الثقافي وعلاجه من الآفات التي ساهمت في ترديه.

ولقد جاء كتاب عبد الرحمن بمثابة دعوة إلى التفكير، واجتهاد في كيفية صنع يقظة فكرية قائمة على الإبداع وليس التقليد، وهو يقسم الكتاب إلى عشرة فصول، تناول كل فصل منها جانباً من جوانب هذه القضية التي كرس لها مشروعه الفكري الكبير.

في الفصل الأول من كتابه، يستعرض الكاتب جانبًا من سيرته الفكرية والمهنية، موضحًا الأسباب التي دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر، والتفرغ للفلسفة، ومن ثم الدخول في تجربة روحية عميقة.

ويكشف عبد الرحمن عن أن هزيمة يونيو عام 1967 كانت في مقدمة الأسباب التي دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر، وأنها أصابته بزلزال شديد وجعلته على يقين بأن سبب هذه الهزيمة هو خلل أصاب العقل العربي، مشيرا إلى أن تكوينه الفلسفي جعله يتيقن من أن العقل الذي هزم العرب هو عقل محدود.

“إن الأمة الإسلامية مؤهلة لعقل أوسع، من هذا العقل الذي هزمها، لكنها لم تقم بواجب هذه المسئولية”، هكذا تبين للمؤلفـ، فدفعه ذلك لأن يسعى في طلب الحقيقة، وراء حدود المنطق، ويدخل في تجربة روحية خالصة.

ويؤكد عبد الرحمن في هذا الفصل أن ثمار هذه التجربة الروحية التي عاشها، كانت توسيع مداركه وآفاقه وتغيير المعارف التي اكتسبها من قبل عن طريق العقل المجرد، المحدود، الذي كان سببا في الهزيمة العربية.

وينتقل فيلسوفنا إلى الفصل الثاني من كتابه مؤكدًا أن الأصل في الكلام هو الحوار، وأن حقيقة الكلام، الذي تكلم به الإنسان الأول، كانت حقيقة حوارية، لأن للحوار أهميات عديدة.

والأهمية الأولى للحوار – في تقديره- هي الأهمية الآلية، فالحوار يعطي حقوقًا ويُلزم بواجبات، فهو يعطي حق الاعتقاد والقول والانتقاد، وهناك أهمية ثانية وهي أهمية داخلية، فالحوار يعود بنا إلى الأصل. أما الأهمية الخارجية فتقوم في ضرورة الحوار مع الآخرين على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم.

ويعتبر عبد الرحمن أن المسلم ينبغي ألا يخشى الحوار على الإطلاق لأسباب كثيرة، أولها القوة الاستدلالية الموجودة في النص الديني الاسلامي، والتي لا نظير لها في النصوص الدينية الأخرى، مؤكدًا أنه لو تمكن المسلم من ضبط هذه القوة الاستدلالية وامتلك آلياتها لصار قادرًا على مواجهة أي حوار مع أي جهة، سواء كانت متدينة أو غير متدينة.

والسبب الثاني الذي يجعل المسلم لا يخشى الحوار، هي قدرته بفضل استثمار الرصيد الاستدلالي الموجود في العلوم الشرعية الإسلامية، على مواجهة أي تحد منطقي قد يواجهه في حياته.

و”مفهوم العقل” هو الموضوع الذي يدور حوله الفصل الثالث من الكتاب، وفيه يتحدث عبد الرحمن عن رؤيته لهذا المفهوم، مستندًا في ذلك إلى آيات القرآن الكريم، ومؤكدًا أن العقل إنما هو فعل من أفعال القلب. وهنا يتعرض فيلسوفنا لمصطلح خاص به هو “التكوثر”، والذي يعني به العلاقة الموجودة بين العقل والتعدد، فالقلب – حسب وجهة نظره- ذات أو قوة لا تبقى على حال واحدة، لأنها تتحول وتتقلب باستمرار، أما العقل الذي هو فعل خاص بالقلب فيكون متقلبا بتقلب القلب نفسه.

والعقل الأسمى، أو الأكمل، هو الذي يستطيع أن يتلقب أقصى ما يمكن التقلب، لأن القلب تتوارد عليه أحوال متعددة، ولا بد أن تنعكس هذه الأحوال المختلفة في أفعال الإنسان.

ويرفض عبد الرحمن، في الفصل الرابع من الكتاب، التصور الذي هيمن على الفلسفة العالمية، والذي يدعي أصحابه أن الفلسفة هي “نظر استدلالي”، لا حاجة فيه إلى استخدام العقل النظري، للوصول إلى الحقائق، سواء أكانت حقائق متعلقة بالغيبيات، أو بالسلوكيات،
ويؤكد الكاتب أن هذا التصور يخلّ بمقتضى منطقي، وهو أن النظر المجرّد لا يمكن أن يحكم إلا على المجرّدات، وليس على السلوكيات، لأنه يحتاج أن يتحقق بالخصائص السلوكية، لكي يتمكن من الحكم عليها، وهذا يعني أنه لا بد للفلسفة من أن تكون مصحوبة بالعمل.

ويدعو عبد الرحمن، في هذا الموقع من الكتاب، إلى إعادة النظر في بعض المسلمات المتداولة بشأن الأخلاق، لأن التصور الذي يسود عن الفلسفة، هو تصور نظري، وعلم الأخلاق نفسه، يعتبر مبحثًا نظريًا.

الهوس بالإبداع
ينتقد المؤلف في الفصل الخامس حالة غياب الإبداع من الساحة الفكرية، ويؤكد أنه مهموم بقضية الإبداع إلى “حد الهوس”، وأننا كأمة أولى بهذا الهوس من غيرنا لأنه دليل على الصحة، واصفًا الهمّ بالإبداع بأنه “حياة، ومن دونه تصير الأمة ميتة”.

ويستعرض عبد الرحمن هنا مفهومه للإبداع بقوله إن الإبداع يتضمن معنى زائدًا على الابتكار وهو “الجمال”، وعليه فالمبدع من وجهة نظره هو الذي ينشئ أشياء يتحقق فيها معنى الجمال، ولا يكون المبدع مبدعًا بحق حتى ينشئ الأشياء إنشاءً جماليًا. ويرى أنه لا يمكن تحقيق الابتكار الذي يخرج بنا إلى التحديث النافع، إلا إذا قامت بيننا وبين ما نبدعه علاقة جمالية، أو تعامل جمالي، بمعنى أن يتحول التحديث نفسه إلى قيمة جمالية.
وينتقد فيلسوفنا الترجمة الفلسفية العربية التي وقعت في فخ التقليد وغاب عنها الإبداع وأي قيمة جمالية، فجاءت العبارات ركيكة، وأصبح النص صعبًا على الفهم يحتاج إلى شرح طويل.

ويواصل نقده للواقع الفلسفي العربي، فيؤكد في الفصل السادس من الكتاب أن ما يحدث في هذا الواقع هو نقل للحداثة الغربية، وهذا النقل شأنه شأن الترجمة، فهو نقل لا ابتكار ولا جمال فيه، طارحًا مجموعة من المبادئ التي يمكن من خلالها التخلص من هذه الآفة وبناء حداثة إسلامية قائمة على الإبداع.

ومن ثم يشرح المؤلف في الفصل السابع مفهومه لـ”الحداثة” والمبادئ التي يرى أنها تقوم عليها، معتبراً أن الحداثة الغربية فشلت في قطع صلتها نهائياً بالأخلاق الدينية، مدللاً على ذلك بأنها حاولت أن تحقق انفصالات محددة.

وأول هذه الانفصالات هو الانفصال عن سلطة الكنيسة الكاثوليكية مع حفظ الصلة بالدين المسيحي، وثانيها الانفصال عن المسيحية مع حفظ الصلة بمبدأ الدين، ثم يأتي انفصال ثالث عن مبدأ الإيمان الديني، ولكن مع حفظ الصلة بالأخلاق التي يتضمنها الدين.

أما بالنسبة للحداثة العربية، فيؤكد عبد الرحمن أنه لا توجد “حداثة عربية”، وأن الحداثيين العرب هم أصلاً مقلدون صريحون، لأن شرط تحقق هذه الحداثة، هو الإبداع، وهذا الأخير غير موجود في الواقع الفكري العربي.

وإذا كان الوضع كذلك كيف يحقق العربي استقلاله الفلسفي؟
يجيب عبد الرحمن في الفصل الثامن من الكتاب على هذا التساؤل، موضحًا أن هناك موانع كثيرة تعيق العربي عن التفلسف، تتمثل في جملة من التصورات. وأول هذه التصورات هو التصور الذي يدعي أصحابه أن الفلسفة كونية، وأنها لا يمكن أن تقوم على أساس خصوصية معينة، والثاني هو التصور الذي يزعم أصحابه أن منهج الفلسفة هو العقل الخالص، أما المانع الثالث فهو التصور الذي يجعل من الفلسفة محل تقدير بلغ حد التقديس.
ويرى عبد الرحمن أن مثل هذه التصورات تعيق الإبداع، داعيًا إلى مراجعتها كخطوة أولى يخطوها “المتفلسف العربي” نحو إبداع فلسفة خاصة به، على اعتبار أن “الخصوصية لا تحط من قدر الفلسفة”.

لا إبداع بغير تراث
ونصل إلى نقطة بالغة الأهمية في الكتاب، وهي أن الإبداع يجب أن يكون موصولاً بالتراث، وهذا ما يؤكد عليه فيلسوفنا، في الفصل التاسع من كتابه، فمن وجهة نظره، لا إبداع بغير تراث، ولا هوية أيضًا بغير تراث.

ويؤكد الأكاديمي المغربي أن التراث هو بمثابة “المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتد في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل. أما إذا أصبح هذا الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود فإن هذا يُضر بالهوية وبالإبداع معًا.

ويعتقد عبد الرحمن في هذا الفصل من كتابه أن الغرب لم ينقد تراثه كما تولى المسلمون نقد تراثهم، مدللاً على ذلك بما يسمى بـ”النهضة الأوروبية” وهي عبارة عن عودة إلى التراث اليوناني بدون نقد.

أما ذلك النقد الذي حدث في بداية هذه “النهضة الأوربية” فقد كان نقدًا للتراث وللسلطة الكنسية المطلقة.
ويشير إلى أن الغرب كان يعتبر تراثه دائما جزءاً من هويته، وجزءًا من الطاقة الابداعية التي يمتلكها، موضحًا أن الاشتغال الغربي بالتراث كان تأييدًا لمقوماته وإحياءً لقيمه.

أما نقد العرب والمسلمين لتراثهم، فكان يهدف إلى إلغائه كليًا، والدعوة إلى الانفصال عنه بحجة أنه لا يمكن دخول عصر الحداثة إلا بـ”القطيعة” مع هذا التراث.

ويخلص عبد الرحمن في هذا المقام إلى أن الوصل بين التراث والمعاصرة يتم باستكشاف الروح التي تحكمت في التراث، وفي انتاجه، وهذه الروح هي عبارة عن قيم ومبادئ وأصول ينبغي أن يجري استخراجها والتوسل بها من أجل الدخول إلى الحداثة.

وفي الفصل العاشر والأخير من الكتاب، يؤكد عبد الرحمن أن الحداثة تُبنى على مبادئ وقيم، هي بمنزلة روحها، وأن “تطبيق هذه الروح صحبه مسلمات ليست من الحداثة في شيء، ولكن الغرب نسبها إلى الحداثة”. ويدعو فيلسوفنا إلى ضرورة صرف هذه المسلمات الناتجة عن التطبيق الغربي لروح الحداثة.

أما تصوره الخاص لهذه الروح، فيقوم على مبادئ ثلاثة، هي “مبدأ الرشد”، و”مبدأ النقد”، و”مبدأ الشمول”، أما غير ذلك فيعتبره مسلمات خاصة بالمجتمع الغربي مثل “العقلانية المجردة”، و”العلمانية”، و”الفردانية”.

وينهي العلامة المغربي كتابه بملحقين تناول في الأول قضية “حرية التعبير وحق الاختلاف” موضحًا الضوابط التي يجب أن تحكمهما، أما الملحق الثاني، فيتناول فيه التحديات التي تواجه الحوار وهي “سيادة الحضارة واحدة”، و”وجود الإرهاب المتعدد” في عالمنا المعاصر.
.
المزيد..

تعليقات القرّاء:

ساهمت موجة الحداثة الغربية في تردي الواقع الفكري العربي، من خلال تغييبها للإبداع، وفرضها أدواتها المنقولة على هذا الفضاء الفكري العربي، ما أدى إلى تشتيت المفكرين العرب، وقطع وشائج الصلة بينهم وبين تراثهم، فباتت لغة الحوار معدومة في هذا الفضاء، وهو ما ساهم في تكريس حالة التردي هذه، فأصبح كل ما يحدث هو من قبيل الجدل العقيم، وصارت الساحة بحاجة إلى يقظة فكرية تقوم على أسس وقواعد تعالج الخلل، وتسير بالفكر العربي إلى طريقه الصحيح الذي يولد ثقافة منتجة موصولة بتراثها الأصيل.

وفي هذا الكتاب “الحوار أُفقًا للفكر”، يجتهد العلاّمة المغربي الفيلسوف طه عبد الرحمن في تشخيص الوضع الفكري العربي المعاصر، واضعًا يده على مكامن الخلل فيه، ومقترحًا السبل الكفيلة بالقضاء على كل الآفات التي ضربت ذلك الفضاء الفكري العربي.

تيه عظيم
يبدأ عبد الرحمن كتابه بمقدمة يتساءل فيها عن توصيف الحالة الفكرية، وما إذا كانت تعبيراً عن أزمة فكرية، أو مظهر من مظاهر هزيمة فكرية، أم أن ما يعانيه العرب هو مجرد فراغ فكري، أو حالة من العجز، ولا ينتظر فيلسوفنا طويلاً في سياق الإجابة على هذه التساؤلات، رافضًا في الوقت نفسه كل هذه التوصيفات.

ويؤكد عبد الرحمن أن الوضع الفكري العربي ما هو إلا “تيه عظيم في عالم الأفكار” منع اجتماع المفكرين على كلمة سواء، ووقف حائلاً دون التفكير، وإطالة التفكير، كما أنه خلق حالة من شتات الأفكار نتيجة التقليد.

ويدعو العلامة المغربي، في كتابه، إلى ضرورة السعي من أجل الخروج من هذا التيه الفكري، الذي طال أمده، وإلا هلكنا، موضحًا أن “هذا الخروج لن يتأتى لنا إلا بالاهتداء إلى الأهداف الصالحة، والوسائل النافذة”.

والاهتداء إلى الأهداف الصالحة يكون بتفكير الجماعة الكثيرة، وليس الفرد الواحد، هذا النوع من التفكير – حسب المؤلف- هو الذي يولد الأفكار الكبرى، فالأصل في التفكير الكبير أن يكون تفكيرًا في مقاصد الأمور، والمبادرة باستنباطها من ظواهرها.

أما الاهتداء بالوسائل النافذة فإنه يكون بإطالة التفكير الذي يولد الأفكار الطُولى والتفكير في الوسيلة يزيد على التفكير في الهدف درجة، ولا تكون أنفذ الوسائل إلا من هذه الأفكار الطُولى، لأن الأصل في ذلك التفكير الطويل أن يفكر المرء في عواقب الأمور، فيبادر بتداركها من أمنبعها، والفكرة الكبرى تحتاج في تحققها إلى الفكرة الطُولى.

وكتاب “الحوار أُفقًا للفكر” هو عبارة عن أحاديث وحوارات أجراها عبد الرحمن مع قنوات فضائية ومثقفين، تناولت عدداً من الموضوعات التي دارت جميعها حول كيفية جمع المفكرين على كلمة سواء، وكيفية النهوض بالواقع الثقافي وعلاجه من الآفات التي ساهمت في ترديه.

ولقد جاء كتاب عبد الرحمن بمثابة دعوة إلى التفكير، واجتهاد في كيفية صنع يقظة فكرية قائمة على الإبداع وليس التقليد، وهو يقسم الكتاب إلى عشرة فصول، تناول كل فصل منها جانباً من جوانب هذه القضية التي كرس لها مشروعه الفكري الكبير.

في الفصل الأول من كتابه، يستعرض الكاتب جانبًا من سيرته الفكرية والمهنية، موضحًا الأسباب التي دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر، والتفرغ للفلسفة، ومن ثم الدخول في تجربة روحية عميقة.

ويكشف عبد الرحمن عن أن هزيمة يونيو عام 1967 كانت في مقدمة الأسباب التي دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر، وأنها أصابته بزلزال شديد وجعلته على يقين بأن سبب هذه الهزيمة هو خلل أصاب العقل العربي، مشيرا إلى أن تكوينه الفلسفي جعله يتيقن من أن العقل الذي هزم العرب هو عقل محدود.

“إن الأمة الإسلامية مؤهلة لعقل أوسع، من هذا العقل الذي هزمها، لكنها لم تقم بواجب هذه المسئولية”، هكذا تبين للمؤلفـ، فدفعه ذلك لأن يسعى في طلب الحقيقة، وراء حدود المنطق، ويدخل في تجربة روحية خالصة.

ويؤكد عبد الرحمن في هذا الفصل أن ثمار هذه التجربة الروحية التي عاشها، كانت توسيع مداركه وآفاقه وتغيير المعارف التي اكتسبها من قبل عن طريق العقل المجرد، المحدود، الذي كان سببا في الهزيمة العربية.

وينتقل فيلسوفنا إلى الفصل الثاني من كتابه مؤكدًا أن الأصل في الكلام هو الحوار، وأن حقيقة الكلام، الذي تكلم به الإنسان الأول، كانت حقيقة حوارية، لأن للحوار أهميات عديدة.

والأهمية الأولى للحوار – في تقديره- هي الأهمية الآلية، فالحوار يعطي حقوقًا ويُلزم بواجبات، فهو يعطي حق الاعتقاد والقول والانتقاد، وهناك أهمية ثانية وهي أهمية داخلية، فالحوار يعود بنا إلى الأصل. أما الأهمية الخارجية فتقوم في ضرورة الحوار مع الآخرين على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم.

ويعتبر عبد الرحمن أن المسلم ينبغي ألا يخشى الحوار على الإطلاق لأسباب كثيرة، أولها القوة الاستدلالية الموجودة في النص الديني الاسلامي، والتي لا نظير لها في النصوص الدينية الأخرى، مؤكدًا أنه لو تمكن المسلم من ضبط هذه القوة الاستدلالية وامتلك آلياتها لصار قادرًا على مواجهة أي حوار مع أي جهة، سواء كانت متدينة أو غير متدينة.

والسبب الثاني الذي يجعل المسلم لا يخشى الحوار، هي قدرته بفضل استثمار الرصيد الاستدلالي الموجود في العلوم الشرعية الإسلامية، على مواجهة أي تحد منطقي قد يواجهه في حياته.

و”مفهوم العقل” هو الموضوع الذي يدور حوله الفصل الثالث من الكتاب، وفيه يتحدث عبد الرحمن عن رؤيته لهذا المفهوم، مستندًا في ذلك إلى آيات القرآن الكريم، ومؤكدًا أن العقل إنما هو فعل من أفعال القلب. وهنا يتعرض فيلسوفنا لمصطلح خاص به هو “التكوثر”، والذي يعني به العلاقة الموجودة بين العقل والتعدد، فالقلب – حسب وجهة نظره- ذات أو قوة لا تبقى على حال واحدة، لأنها تتحول وتتقلب باستمرار، أما العقل الذي هو فعل خاص بالقلب فيكون متقلبا بتقلب القلب نفسه.

والعقل الأسمى، أو الأكمل، هو الذي يستطيع أن يتلقب أقصى ما يمكن التقلب، لأن القلب تتوارد عليه أحوال متعددة، ولا بد أن تنعكس هذه الأحوال المختلفة في أفعال الإنسان.

ويرفض عبد الرحمن، في الفصل الرابع من الكتاب، التصور الذي هيمن على الفلسفة العالمية، والذي يدعي أصحابه أن الفلسفة هي “نظر استدلالي”، لا حاجة فيه إلى استخدام العقل النظري، للوصول إلى الحقائق، سواء أكانت حقائق متعلقة بالغيبيات، أو بالسلوكيات،
ويؤكد الكاتب أن هذا التصور يخلّ بمقتضى منطقي، وهو أن النظر المجرّد لا يمكن أن يحكم إلا على المجرّدات، وليس على السلوكيات، لأنه يحتاج أن يتحقق بالخصائص السلوكية، لكي يتمكن من الحكم عليها، وهذا يعني أنه لا بد للفلسفة من أن تكون مصحوبة بالعمل.

ويدعو عبد الرحمن، في هذا الموقع من الكتاب، إلى إعادة النظر في بعض المسلمات المتداولة بشأن الأخلاق، لأن التصور الذي يسود عن الفلسفة، هو تصور نظري، وعلم الأخلاق نفسه، يعتبر مبحثًا نظريًا.

الهوس بالإبداع
ينتقد المؤلف في الفصل الخامس حالة غياب الإبداع من الساحة الفكرية، ويؤكد أنه مهموم بقضية الإبداع إلى “حد الهوس”، وأننا كأمة أولى بهذا الهوس من غيرنا لأنه دليل على الصحة، واصفًا الهمّ بالإبداع بأنه “حياة، ومن دونه تصير الأمة ميتة”.

ويستعرض عبد الرحمن هنا مفهومه للإبداع بقوله إن الإبداع يتضمن معنى زائدًا على الابتكار وهو “الجمال”، وعليه فالمبدع من وجهة نظره هو الذي ينشئ أشياء يتحقق فيها معنى الجمال، ولا يكون المبدع مبدعًا بحق حتى ينشئ الأشياء إنشاءً جماليًا. ويرى أنه لا يمكن تحقيق الابتكار الذي يخرج بنا إلى التحديث النافع، إلا إذا قامت بيننا وبين ما نبدعه علاقة جمالية، أو تعامل جمالي، بمعنى أن يتحول التحديث نفسه إلى قيمة جمالية.
وينتقد فيلسوفنا الترجمة الفلسفية العربية التي وقعت في فخ التقليد وغاب عنها الإبداع وأي قيمة جمالية، فجاءت العبارات ركيكة، وأصبح النص صعبًا على الفهم يحتاج إلى شرح طويل.

ويواصل نقده للواقع الفلسفي العربي، فيؤكد في الفصل السادس من الكتاب أن ما يحدث في هذا الواقع هو نقل للحداثة الغربية، وهذا النقل شأنه شأن الترجمة، فهو نقل لا ابتكار ولا جمال فيه، طارحًا مجموعة من المبادئ التي يمكن من خلالها التخلص من هذه الآفة وبناء حداثة إسلامية قائمة على الإبداع.

ومن ثم يشرح المؤلف في الفصل السابع مفهومه لـ”الحداثة” والمبادئ التي يرى أنها تقوم عليها، معتبراً أن الحداثة الغربية فشلت في قطع صلتها نهائياً بالأخلاق الدينية، مدللاً على ذلك بأنها حاولت أن تحقق انفصالات محددة.

وأول هذه الانفصالات هو الانفصال عن سلطة الكنيسة الكاثوليكية مع حفظ الصلة بالدين المسيحي، وثانيها الانفصال عن المسيحية مع حفظ الصلة بمبدأ الدين، ثم يأتي انفصال ثالث عن مبدأ الإيمان الديني، ولكن مع حفظ الصلة بالأخلاق التي يتضمنها الدين.

أما بالنسبة للحداثة العربية، فيؤكد عبد الرحمن أنه لا توجد “حداثة عربية”، وأن الحداثيين العرب هم أصلاً مقلدون صريحون، لأن شرط تحقق هذه الحداثة، هو الإبداع، وهذا الأخير غير موجود في الواقع الفكري العربي.

وإذا كان الوضع كذلك كيف يحقق العربي استقلاله الفلسفي؟
يجيب عبد الرحمن في الفصل الثامن من الكتاب على هذا التساؤل، موضحًا أن هناك موانع كثيرة تعيق العربي عن التفلسف، تتمثل في جملة من التصورات. وأول هذه التصورات هو التصور الذي يدعي أصحابه أن الفلسفة كونية، وأنها لا يمكن أن تقوم على أساس خصوصية معينة، والثاني هو التصور الذي يزعم أصحابه أن منهج الفلسفة هو العقل الخالص، أما المانع الثالث فهو التصور الذي يجعل من الفلسفة محل تقدير بلغ حد التقديس.
ويرى عبد الرحمن أن مثل هذه التصورات تعيق الإبداع، داعيًا إلى مراجعتها كخطوة أولى يخطوها “المتفلسف العربي” نحو إبداع فلسفة خاصة به، على اعتبار أن “الخصوصية لا تحط من قدر الفلسفة”.

لا إبداع بغير تراث
ونصل إلى نقطة بالغة الأهمية في الكتاب، وهي أن الإبداع يجب أن يكون موصولاً بالتراث، وهذا ما يؤكد عليه فيلسوفنا، في الفصل التاسع من كتابه، فمن وجهة نظره، لا إبداع بغير تراث، ولا هوية أيضًا بغير تراث.

ويؤكد الأكاديمي المغربي أن التراث هو بمثابة “المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتد في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل. أما إذا أصبح هذا الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود فإن هذا يُضر بالهوية وبالإبداع معًا.

ويعتقد عبد الرحمن في هذا الفصل من كتابه أن الغرب لم ينقد تراثه كما تولى المسلمون نقد تراثهم، مدللاً على ذلك بما يسمى بـ”النهضة الأوروبية” وهي عبارة عن عودة إلى التراث اليوناني بدون نقد.

أما ذلك النقد الذي حدث في بداية هذه “النهضة الأوربية” فقد كان نقدًا للتراث وللسلطة الكنسية المطلقة.
ويشير إلى أن الغرب كان يعتبر تراثه دائما جزءاً من هويته، وجزءًا من الطاقة الابداعية التي يمتلكها، موضحًا أن الاشتغال الغربي بالتراث كان تأييدًا لمقوماته وإحياءً لقيمه.

أما نقد العرب والمسلمين لتراثهم، فكان يهدف إلى إلغائه كليًا، والدعوة إلى الانفصال عنه بحجة أنه لا يمكن دخول عصر الحداثة إلا بـ”القطيعة” مع هذا التراث.

ويخلص عبد الرحمن في هذا المقام إلى أن الوصل بين التراث والمعاصرة يتم باستكشاف الروح التي تحكمت في التراث، وفي انتاجه، وهذه الروح هي عبارة عن قيم ومبادئ وأصول ينبغي أن يجري استخراجها والتوسل بها من أجل الدخول إلى الحداثة.

وفي الفصل العاشر والأخير من الكتاب، يؤكد عبد الرحمن أن الحداثة تُبنى على مبادئ وقيم، هي بمنزلة روحها، وأن “تطبيق هذه الروح صحبه مسلمات ليست من الحداثة في شيء، ولكن الغرب نسبها إلى الحداثة”. ويدعو فيلسوفنا إلى ضرورة صرف هذه المسلمات الناتجة عن التطبيق الغربي لروح الحداثة.

أما تصوره الخاص لهذه الروح، فيقوم على مبادئ ثلاثة، هي “مبدأ الرشد”، و”مبدأ النقد”، و”مبدأ الشمول”، أما غير ذلك فيعتبره مسلمات خاصة بالمجتمع الغربي مثل “العقلانية المجردة”، و”العلمانية”، و”الفردانية”.

وينهي العلامة المغربي كتابه بملحقين تناول في الأول قضية “حرية التعبير وحق الاختلاف” موضحًا الضوابط التي يجب أن تحكمهما، أما الملحق الثاني، فيتناول فيه التحديات التي تواجه الحوار وهي “سيادة الحضارة واحدة”، و”وجود الإرهاب المتعدد” في عالمنا المعاصر.
 



سنة النشر : 2013م / 1434هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 3.2 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة الحوار أفقا للفكر

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل الحوار أفقا للفكر
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
طه عبد الرحمن - Taha Abdul Rahman

كتب طه عبد الرحمن طه عبد الرحمن (1944 بالجديدة)، فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ❝ ❞ سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ❝ ❞ روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية ❝ ❞ الحوار أفقا للفكر ❝ ❞ تجديد المنهج في تقويم التراث ❝ ❞ سؤال العمل: بحث في الأصول العملية في الفكر والعلم ❝ ❞ التأسيس الائتماني لعلم المقاصد ❝ الناشرين : ❞ المركز الثقافي العربي ❝ ❞ الشبكة العربية للأبحاث والنشر ❝ ❞ مركز نهوض للدراسات والنشر ❝ ❱. المزيد..

كتب طه عبد الرحمن
الناشر:
الشبكة العربية للأبحاث والنشر
كتب الشبكة العربية للأبحاث والنشرالشبكة العربية للأبحاث والنشر مشروع ثقافي تأسس في بيروت بدايات عام ٢٠٠٨، على يد عبد العزيز القاسم ونواف القديمي - كلاهما من السعودية - وهي تهدف إلى نشر الكتب والأطروحات في حقول الفلسفة والفكر والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وإعادة قراءة التراث والإصلاح الديني والسياسي، وتعزيز قيم الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني بما يتواءم مع هوية المجتمعات العربية وثقافتها، والإسهام في تنمية الوعي بأزمة العالم العربي المتمثلة في الاستبداد السياسي والفقر وانخفاض مستويات التعليم وتدني التنمية وضعف الإنتاج العلمي والمعرفي، إضافة إلى الخروج النقدي من ثنائية الصراع بين التبعية السياسية والثقافية للغرب من جهة، ورفض التعاطي النقدي وتجاوز الإرث الثقافي والسياسي العربي المعوِّق لتقدم المجتمعات العربية وتنميتها وتحررها من جهة أخرى. ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ خمسون عالما إجتماعيا أساسيا المنظرون المعاصرون ❝ ❞ علم الإجتماع المفاهيم الأساسية ❝ ❞ المثالية الألمانية المجلد الأول ❝ ❞ في ضيافة كتائب القذافي (قصة اختطاف فريق الجزيرة في ليبيا ) نسخة مصورة ❝ ❞ التراث وإشكالياته الكبرى نحو وعي جديد بأزمتنا الحضارية Pdf ❝ ❞ أيام العرب الأواخر ❝ ❞ السلفية العالمية : الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغير ❝ ❞ خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين ❝ ❞ التفكير النقدي مدخل في طبيعة المحاجة وأنواعها ❝ ❞ بين الجزيرة والثورة ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ محمد عابد الجابرى ❝ ❞ عبد الوهاب المسيري ❝ ❞ د. محمد الشيخ ❝ ❞ محمد الأمين الشنقيطي ❝ ❞ جاسم سلطان ❝ ❞ طه عبد الرحمن ❝ ❞ هبة رءوف عزت ❝ ❞ فهد الحمودي ❝ ❞ زيجمونت باومان ❝ ❞ برنارد لويس ❝ ❞ طارق البشري ❝ ❞ سعد العبد الله الصويان ❝ ❞ جون سكوت ❝ ❞ أحمد فال بن الدين ❝ ❞ القاسم بن الحسين الخوارزمي صدر الأفاضل ❝ ❞ بابرا غيديس، جوزيف رايت، إيريكا فرانتز ❝ ❞ دجاسر عودة ❝ ❞ محمود محمد أحمد ❝ ❞ عبد الإله بلقزيز ❝ ❞ سعود المولى ❝ ❞ عبد السلام بنعبد العالى ❝ ❞ نادية مصطفى ❝ ❞ ناصر الحزيمي ❝ ❞ د. معتز الخطيب ❝ ❞ عمرو صالح يس ❝ ❞ لؤي صافي ❝ ❞ رول ميير ❝ ❞ حمو النقاري ❝ ❞ مدحت ماهر الليثي ❝ ❞ محمد أبو رمان ❝ ❞ عبد الله البريدي ❝ ❞ عبد الرحمن الحاج ❝ ❞ هنس زندكولر ❝ ❞ علي الظفيري ❝ ❞ ديبورا آموس ❝ ❞ نادر هاشمي ❝ ❞ ستيفان لاكروا ❝ ❞ أديس جودري ❝ ❞ ناثان ج براون و عمرو حمزاوي ❝ ❞ منصور زويد المطيري ❝ ❞ مارشال هودجسون ❝ ❞ محمد حلمي عبد الوهاب ❝ ❞ مجيد محمدي ❝ ❞ مصطفى الحسن ❝ ❞ محمد سبيلا ❝ ❞ أسعد طه ❝ ❞ محمد الرحموني ❝ ❱.المزيد.. كتب الشبكة العربية للأبحاث والنشر