📘 قراءة كتاب التوحد الإبداعي في نحو النص أونلاين
التوحد الإبداعي في نحو النص
قصيدة "زحلة" لأمير الشعراء نموذجاً
د. محمد خليفة محمود
رئيس قسم النحو والصرف والعروض
كلية دار العلوم – جامعة المنيا
التوحد الإبداعي في نحو النص
قصيدة "زحلة" لأمير الشعراء نموذجاً
إعــداد
د. محمد خليفة محمود
رئيس قسم النحو والصرف والعروض
كلية دار العلوم – جامعة المنيا
أولاً: الإطار العام
1- الموضوع:
يتناول هذا البحث دراسة لنحو النص، هذا العلم القديم الحديث، القديم في أصوله التي تأوي إلى خزانة ضخمة عملاقة تحوي ما لا يحصى من القواعد العريقة الراسخة، فجذوره قديمة قدم النحو التراثي الخالد –الحديث في الصياغة والاستمداد والتداخل مع باقي علوم اللغة، والعلوم الأخرى، والمعالجة للموضوعات، وكيفية التعامل مع القضايا والمسائل والاتجاه.
ولقد توقف فيه الكثيرون، فلم يدلوا فيه بدلو واحد؛ وذلك لأنه علم لم يستكمل –في ظني- حتى الآن، ولم يوضع له الإطار النهائي، ولا الهيكلة التامة، فخشي هذا الفريق أن يخوض في بحر لا يعرف أعماقه ولا أغواره، ولا يضمن نتائجه؛ فهاب وحاذر حتى من التكهن لا التداول، وآثر السلامة في البعد عنه، فتوهم أن تركه بلا خسارة فكرية ونفسية خير من المجازفة، حتى وإن كان فيها مظنة الفوز بتوجه جديد في النحو العربي وقضاياه، فعكس النظرية القائلة بـ"العلم بالشيء ولا الجهل به" بنظرية من تلقاء نفسه مفادها الجهل بالشيء ولا العلم به إن كان هناك عرضة لأدنى خسارة، فولى وجهة عن الفوز بلذة العلم والمعرفة إن كانت هناك مغامرة، فلما كان هناك رهبة من الإخفاق، وحذر من تحديث كل شيء، وحدة في مناصرة التراث، وظن بعدم جدوى تلك النظرية بعد اكتمال النحو العربي على يد القدماء، توقف هؤلاء، في حين مضى الفريق الآخر قدماً نحو هذا العلم، أو نحو هذا التوجه الجديد لذلك العلم، فالخوف من الخوض فيه، والجهل بنتائجه، لم يكن عائقاً من اقتحامه، وثبر أغواره، وبسط الكلام فيه، إلا أن اتصال هذا الموضوع بالحداثة، أو التحديث؛ أدى إلى عدم نضجه، فحلل بعضهم النصوص تحليل الجمل، أو حللها كشرح النصوص، وهو يظن أنه يحلل تحليل نص، وهذا لا يمنع أن بعضهم استعمل ألفاظاً حديثة، وصياغات ومصطلحات كان نتاجها أن كانت أصعب من تقعرٍ باللغة كالذي كان يأتيه عيسى بن عمر في حين أن في تراثنا العظيم الخالد الغني عن تلك الألفاظ المعقدة، فهل أفلس هذا الفريق فلم يجد إلا استحداث تلك المصطلحات، وكان كل جهده استبدال مصطلحات قديمة سهلة معهودة في متناول الجميع بمصطلحات حديثة؟!، وأخطر من هؤلاء من دعاه عدم فهمه للموضوع، أو مبالغة في التحديث من غالى في تعريف تلك المصطلحات فعرفها بما هو ليس أهلاً لها، وأدخل عليها ما ليس منها، وأدرج فيها من المسائل الغريبة والشاذة، بل وما لم يصح في بعض الأحيان، ومنهم أيضاً من أبدع في الدراسة النظرية، والإشادة بجهده، وبما توصل إليه، والثناء على نفسه وعلى عمله، ونوَّه على حسن تطبيقه، ولكن عند التطبيق لم نجد من ذلك أي شيء.
وأظن –إن لم يجانبني الصواب- أن تلك الأخطاء وغيرها أمر نابع من حداثة الموضوع، وعدم استكماله بعد.
وعلم النص هو علم انتهى من تصريف المفردات، ونحو الجملة وتراكيبها، إلى نحو النص، فخاض في أعماق علوم اللغة كلها، وربط كل ذلك بالعلوم الأخرى –كما تقدم-، فلم يقف على علم يمكن الاستفادة منه ويقبل الانضمام إلا وضمه إليه، ومن تلك العلوم الجغرافية والتاريخية والرياضية والفلسفية والنفسية والفيزيائية... الخ.
ويقوم هذا العلم على ربط أجزاء الكلام، والجمل والتراكيب –أعني- يقوم بعملية الربط الداخلي للنص، ثم ينتقل إلى ربط النص بالعالم الخارجي، سواء كان أعلاماً، أو علوماً أو نحو ذلك، متبعاً في سبيل تحقيق ذلك منهجه المتميز، متمكناً من أدواته، متحملاً نتائج وتبعات التداخل المعرفي الذي ينعت به هذا العلم.
هذا والترابط يتم باجتماع سبعة معايير هي السبك والحبك والقصدية والمقبولية والإعلامية والموقعية والتناص، كما يتم بإرجاع العناصر الإحالية إلى العناصر الإشارية.
2- الدراسات السابقة:
على الرغم من حداثة هذا العلم إلا أننا نجد وفرة في المصادر والمراجع التي تتناول هذا العلم بالدراسة، وسنذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، ولن نعلق عليها؛ لحاجة في نفس يعقوب، أما عن أهم تلك المصادر فهي:
1. د. حسني عبد الجليل يوسف: إعراب النص/ دراسة في إعراب الجمل التي لا محل لها من الإعراب، ط. دار الآفاق العربية، القاهرة، 1997م.
2. فريد عوض حيدر: اتساق النص في سورة الكهف، ط. 1425هـ/ 2004م.
3. د. فخر الدين قباوة: تحليل النص النحوي، ط. دار الفكر العربي، 1418هـ/ 1997م.
4. أ.د/ سعيد حسن البحري: علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، . دار نوبار، الشركة العالمية المصرية للنشر، 1997م.
5. مريم فرنسيس: في بناء النص ودلالته "محاور الإحالة الكلامية"، ط. منشورات وزارة الثقافة السورية، مكتبة الأسد، 1998م.
6. محمد خطابي: لسانيات النص "مدخل إلى الانسجام الخطابي"، ط1، المركز الثقافي العربي، 1990م.
7. د. إلهام أبو غزالة، د. علي خليل: مدخل إلى علم لغة النص "تطبيقات لنظرية روبرت دي بو جراند وولـﭭجانج دريسلر"، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م.
8. فولـﭭجانج هاينه مان، ديتر فهـﭭجر: مدخل إلى علم لغة النص، ترجمه وعلق عليه ومهد له: ا.د/ سعيد حسن بحيري، ط1، كتبة زهراء الشرق، 2004م.
9. د. أحمد محمد عبد الراضي: نحو النص بين الأصالة والحداثة، ط1، مكتبة الثقافة الدينية، 1429هـ/ 2008م.
10. الأزهر الزناد: نسيج النص بحث فيما يكون الملفوظ نصاً. أول السطر غاشياً مع النظام المنبع، ط1، المركز الثقافي العربي، 1993م.
11. روبرت دي بوجراند: النص والخطاب والإجراء، ترجمة: أ.د/ تمام حسان، ط1، عالم الكتب، 1418هـ/ 1998م.
3- أسباب اختيار الموضوع:
الشاعر من أقدر الناس تعبيراً عن الأحداث، وهو قبل ذلك من أكثرهم شعوراً بها، والشعر رابط قوي بذاته؛ يكمن سبب ذلك في الوزن والقافية اللذين يتحلا بهما الشعر دون سواه، علاوة على ما يشاركه فيه غيره، وإن كان له اليد الطولي فيه كالصور البيانية والمحسنات البديعية، واختيار الألفاظ المناسبة، وكل ذلك من الروابط القوية، فمن ثم تم وقع الاختيار عليه كخلفية وتطبيق لهذه النظرية الجديدة، هذا العلم الجديد شكلاً القديم مضموناً الكثير الفوائد والنتائج والهبات، والذي لا يسع متخصص في هذا المجال أن يجهله، من خلال تلك الأمور وغيرها تم وقع الاختيار والتعرف عليه من قرب، وأن يكون لي نصيب فيه، شد من همتي وقوي عزيمتي مسايرة الجديد مع اعتناق القديم؛ فأردت أن أكون ممن سلك طريق هذا العلم في ثوبه الجديد بعد أن نهلت من ميراث القدماء فيه، فرغبت في الإفادة منه والاغتراف من بحره الفياض، بل ولعلي أضيف شيئاً ينتفع به بعضاً من الدارسين من بعدي، كأن أوضح شيئاً مما استُغلق أو أفصل شيئاً مما جُمع أو أجمع شيئاً مما تفرق، أو أعلل لما لم يُعلل له، أو أطرح شيئاً مما لا فائدة من ورائه، أو أُبسط شيئاً مما تركب، وبالجملة أطمع أن يكون لي شيء فيه علاوة على طموحي في أن أكون مناصراً للقديم العريق التليد من هذا العلم ورجاله، منصفاً للحديث منه مما لم يُسفّه أو يخطئ أو يشذ عن تراثنا العظيم الوافر الزاخر الفياض.
والحق أن ما في هذا الموضوع من إبداعات وأطروحات لجدير للباحث أن يتناوله.
4- أهداف البحث:
لهذا البحث العديد من الأهداف نكتفي منها بست فقط وهي:
- التعرف على أهمية وأدوات ونتائج نحو النص.
- إدراك أسباب الإقدام على هذا العلم لمن أقدم عليه، وأسباب الإحجام عن هذا العلم لمن أحجم عنه.
- الإلمام بأهمية نحو الجملة بالنسبة لنحو النص، ومدى المكانة التي يمثلها له.
- معرفة عناصر الربط السبعة، وأهم تفاصيلها.
- الوقوف على الربط بالأدوات الظاهرة، والربط بدون الأدوات الظاهرة.
- الإحاطة بالعناصر الإشارية، والعناصر الإحالية، ودور كل منهما بالنسبة للآخر، والمساهمة في الترابط النصي.
5- المادة عينة الدراسة:
أما عن المادة عينة الدراسة فهي قصيدة (زحلة)، تلك البقعة من بلاد الشام، صاحبها أمير الشعراء "أحمد شوقي"، وهي تقع في الجزء الأول من ديوانه، وقد تم نشرها في جريدة الأهرام في السادس والعشرين من شهر أغسطس عام سبع وعشرين وتسع مائة وألف، وقد طبع ديوان أمير الشعراء عدة طبعات، ونشر أكثر من مرة، وقد اخترت من بين تلك الطبعات الطبعة المحققة بمعرفة العالم أ.د/ أحمد محمد الحوفي؛ لأهمية التحقيق في كل مجالات البحث بصفة عامة، وفي هذا المجال بصفة خاصة؛ ولأن أستاذنا قد بسط القول في بعض المعاني، فكانت خير معين في التوجيه، ولا عجب في ذلك؛ إذ كان عمالقة النحو إذا أعربوا كلمة انتظروا حتى نظروا في معناها، ثم أعربوا.
وتقع القصيدة في واحد وخمسين بيتاً، مثلت نحو النص تمثيلاً حقيقياً وشاملاً، وترابطت من أول كلمة في أول بيت إلى آخر كلمة في آخر بيت في القصيدة.
هذا وقد ظهر في القصيدة السبك والحبك... الخ من عناصر الاتساق والترابط على ما سنعرض بعد قليل.
هذا عن القصيدة، أما عن صاحبها، فإليك إطلالة عليه:
هو أحمد شوقي علي أحمد، ولد بالقاهرة عام خمس وثمانين ومائتين وألف من هجرة المصطفى عام ثمانية وستين وثمان مائة وألف من ميلاد عيسى، أبوه وأمه مصريين، إلا أنه كان يضرب بجذوره إلى الأتراك واليونان والجركس، علاوة على العرب.
كان له علاقة وطيدة بالقصر الملكي، وقد ورث ذلك كابراً عن كابر؛ إذ كان أبوه وجده لأبيه، وجده لأمه كذلك، وقد نشأ في سعة من العيش ورغد؛ لأنه كان ربيب قصور الملوك.
درس الابتدائية، فالقانون، فالترجمة، ولقد مكنته الدراسات المختلفة التي قام بها من تفهم كثير من الأوضاع، ووسعت كثيراً من أفقه واستيعابه للأمور.
وقد أوفده الخديوي توفيق إلى فرنسا؛ ليدرس القانون والأدب، فمكث لهذا الغرض ثلاث سنوات، ثم عاد بعدها لمصر، ولما قامت الحرب العالمية الأولى عام أربعة عشر وتسع مائة وألف تم نفيه من مصر إلى أسبانيا، ثم عاد إلى مصر عام عشرين وتسع مائة وألف.
وكان شوقي منذ النشأة الأولى محباً للعشر متمسكاً به، ولما بلغ أشده أخذ في قراءته أكثر وأكثر وحفظه، بل وقرضه، ولقد بلغ بالشعر وبلغ به الشعر مبلغاً عظيماً، وقد كان في رحلة عمره شاعر القصر الملكي، ثم سار بعد ذلك شاعر الشعب، ثم شاعر الشعراء وأميرهم، وقد أحدث طفرة بالشعر كبيرة من خلال الأغراض التي استحدثها، والتي أتم بناءها.
وقد تنوع شعره فشمل الحياة السياسية والدينية والاجتماعية وأدب الأطفال وشعر المسرحيات... الخ.
وقد كان يتلقى الشعر عنه مجموعة كان يختارهم بنفسه منهم "الأستاذة": عبد الله فكري أباظة، وعلي الجارم، محمد خلف أحمد.
توفي –رحمه الله تعالى- عام واحد وخمسين وثلاث مائة وألف من هجرة المصطفى، الرابع عشر من أكتوبر عام اثنين وثلاثين وتسع مائة وألف من ميلاد عيسى.
6- المنهج والأدوات المتبعة:
تقوم الدراسة في هذا البحث باستقصاء الجانب النظري كله؛ باختصار غير مخل، وإذا احتاج الأمر للإسهاب أديناه، أما الجانب التطبيقي فهو قائم على تحليل القضايا والمسائل التي سبقته بالحديث في الجانب النظري، مع توصيف وتوظيف الظواهر من خلال الأبيات المختارة من شعر شوقي، فما كان في القصيدة من مباحث وقضايا تخص نحو النص تناولناه، وما لم يكن كذلك سكتنا عنه.
نهاية القول يقوم المنهج المتبع في الدراسة التطبيقية على عدة محاور منها المنهج الوصفي، والتحليلي، والدلالي، مروراً بالبنية العميقة (الجمل)، وانتهاءً بالبنية السطحية (النص)، مع مراعاة الجوانب الأخرى.
أما عن العلامة (/) فما قبلها يعني رقم البيت في الصفحة، لا الجزء، وما استغنيت يعني رقم الصفحة، وقد استغنيت عن الجزء الخاص بهذه القصيدة في هامش الدراسة التطبيقية، بالإشارة إليه في مبحث المادة عينة الدراسة.
وهناك كتابان اتفقا في أول العنوان، وعند الاستشهاد بهما أذكر الجزء المتفق عليه، ثم اتبعه بأول كلمة فارقة بينهما مما يلي ما اتفق عليه، أما الكتابان فهما (مدخل إلى علم لغة النص/ تطبيقات لنظرية روبرت ديبوجراند وولـﭭجانج دريسلر/ د. إلهام أبو غزالة – علي خليل حمد)، و(مدخل إلى علم لغة النص، فولـﭭجانج هاينه مان – ديتر فهـﭭجر/ ترجمه وعلق عليه ومهد له: أ.د/ سعيد حسن بحيري)، وبناءً عليه فكنت أكتب مع الأول بعد جزئية الاتفاق كلمة (تطبيقات) علماً عليه، ومع الثاني (ڤولفجانج) علماً عليه أيضاً.
وعند تناولي للبيت أتعرض لما يخص العنوان، ثم أتناول بعد ذلك باقي البيت بالتحليل والعرض سواء وافق العنوان أو خالفه، وقد يمتد ذلك لأكثر من بيت تنويهاً وتعليقاً وتلويحاً، بل وقد تستنفد عناوين بعض الموضوعات داخل موضوعات أخرى، دون أفراد عناوين للمواد المستنفدة.
ولست أزعم حصراً لنحو النص في تلك القصيدة، بل فقط ألتقط من كل بستان زهرة، ومن كل كنز لؤلؤة، فأريح هذا الوادي ودراته أكثر من أن تحصى عساني أطيق هذا البعض الذي سأقف عليه دونهما خلل، وقد أحصر بعضاً من الجوانب التي يمكن ويسهل حصرها، والمستعان الله وعليه التكلان.
• وقفة مع الدراسة النظرية:
نحو النص:
أما النحو، فقد قتل بحثاً وتعريفاً ودراسة، ولا داعي لإعادته مرة أخرى، وكذلك كلمة نص، إلا أنا نذكر هنا أن كلمة نص تشير( ) إلى فقرة أو مقطع، طال أو قصر، منطوق أو مكتوب، يكوِّن وحدة تامة، وترتبط أهمية النص في منظومة المجتمع البشري بالجانب العقلي والعملي معاً، فهو حامل علم وديوان معارف ومصدر تجارب، ضامن لبقاء واستمرارية كل ذلك، مقاوم لفنائه، ولم تكن النصوص عند القدماء تدرس لذاتها في علم مستقل، بل كانت موزعة بين النقد والبلاغة والنحو وغير ذلك.
ونحو النص يقوم على نظرة شاملة للنص وهو من العلوم الحديثة؛ إذ تعود بدايته( ) إلى أربعة عقود من الزمان تقريباً، ولم تتضح معالمه بعض الشيء إلا في بداية السبعينات، وقيل منتصف الستينات من القرن الماضي، ويستمد جذوره وأصوله من الكم الكبير العظيم، ذلك التراث النحوي القديم.
وعلم لغة النص –كما تقدم- علم حديث واتجاه جديد، ويصعب وضع تعريف جامع مانع له، ومن باب أولى يصعب وضع هيكلة له وتقسيمه إلى أبواب وفصول، فهو مفتقر إلى حد كبير إلى إثبات هويته بشكل نهائي وتحديد ملامح صورته إذا ما قيس بالعلوم الأخرى ذات التاريخ الطويل، فهو في تطور سريع ولم يستقر بعد على شكل نهائي.
والذي أدركته أن من غاص في أغوار هذا العلم وتعمق فيه تعمقاً كبيراً وقف عند حد مسائل وموضوعات وقضايا، وقسم الموضوعات إلى موضوعات والمسائل إلى مسائل والقضايا إلى قضايا، فانتقل من فرع –في ظني- إلى فرع عنه، فكثرت الفروع، وقلت الأصول والتي اقتصرت –في حدود علمي- على موضوع واحد، إلا وهو الربط وما تفرع عنه من فروع، والربط –فيما أعلم- ما هو إلا قضية من قضايا اللغة، فهو لم يكن علم مستقلاً حقيقة، بل بداية، ثم صار بعد ذلك علماً من أروع العلوم؛ لما استحدث من وسائل وأساليب ومناهج وبرمجيات رفعت من قدره وشأنه أيما رفعة، زاد من قيمته وأهميته حسابات التداخل المعرفي التي تحلى بها، فقد بلغ بهذه الأمور ذروة السنام.
وهو معنى( ) بالربط الداخلي بين أجزاء النص، والربط الخارجي بين النص وقائله أو غير قائله، وكذلك ربط النص بنص آخر أو نصوص أخرى، علاوة على ربطه بالعلوم الأخرى، والربط شيء لا يستهان به؛ إذ لو اقتصر الشأن في الجمل على المسند إليه لهان الأمر، ولكنه لما طالت الجمل وتداخلت مع جمل أخرى أو انفصل بعضها من بعض وتعري الكلم مما يربط ويبين ما الذي ينتمي إلى هذا، وما الذي ينتمي إلى ذاك، فاعتور الكلام التفكك ودخل المعنى في غيابات الغموض، ووقع اللبس ونمت الآفات القارضة للاتصال والتفاهم وفسدت التراكيب.
فوظيفة الربط إذا إنعاش الذاكرة وتماسك النص ومقاومة الآفات سالفة الذكر، وبذا تتحقق غاية الغايات، وارتفع شأن هذه القضية حتى صارت علماً ذا شأن عظيم يتطلع إليه أولى الألباب والبصائر.
وقد أطلقت عليه –إن صح تعبيري- مصطلح "النت الجديد"، فهو شبكة عنكبوتية تداخلت فيها العلوم الشتى مع علوم اللغة متمثلة في نحو النص، فقد تم بينها تداخل وتناص وتحات وتماس، فلم تقتصر عند حد الملامسة أو المجاورة أو الاقتراب، بل تخطى كل ذلك إلى حد الاختراق والانصهار والتذاوب، فالوصف اللغوي للنص وصف معقد يتجاوز حدود الواقع اللغوي إلى الواقع الخارجي والعلوم الأخرى، فنشاطه واسع خلاق انتقل من موضوع لا يتجاوز وصفه حد القضية أو الباب، إن توسعنا في التعريف، حتى وصل إلى نظام واسع خلاب، وعلم يضم تطور استراتيجيات ومحتويات ومصطلحات علوم أخرى، فهو استمرارية لنشاط ثقافي مرتبط بعديد من الشركاء، وهو علم هجين ذو إطار مدمج تحكمه قواعد ذات مرونة عالية، ويحتاج إلى دراية واسعة في فروع مختلفة، وأدوات غير محدودة لا تتوقف عند بُعد معين؛ إذ فيه إحاطة بامتداد وتموجات النص ثبر لأعماقه العلمية والعقلية وكشف لأبعاد التفكير والتعبير والتصوير لواقع المادة المدروسة، وربط للأحكام والضوابط بالبيئات العلمية، ولا يأتي ذلك إلا من خلال قراءة النص مرة ومرات، أو سماعه -إن كان مسموعاً- سماعاً جيداً، ثم تدبره وتعقله وتفهمه، ثم تقويمه وتوجيهه، هذا ما يخص المتلقي، أما المنشئ فيلزمه سلامة لغة وأداء صوت معين، بجانب الوسائل الأخرى الخاصة بنحو النص.
فالقراءات المتتابعة المتأنية تتلمس دقائق النص ودفائنه وخباياه؛ لتحليل السطحيات وتنفذ منها إلى البنى العميقة التحتية، وتميز الظواهر الأصلية وما تفرع عنها، وترصد من المعاني الظاهرة المسيطرة والإشاراتِ الإيمائيةِ الدقةَ المعززة للأفكار الأساسية والفرعية، وتوقف على المعاني المقصودة، وهو أساس التحليل النصي، فالوقفة فيما سبق تكون إزاء العنصر الفكري والعنصر التعبيري والحصيلة والتقويم.
نخلص من خلال ما سبق أن هذا البحث يستلهم قوامه من ثلاثة جوانب اللاحق منها مبني على السابق، تلك المستويات هي: "المستوى النحوي، والمستوى الدلالي، والمستوى التداولي".
بين نحو النص ونحو الجملة:
الحق أن نحو النص( ) ما هو إلا امتداد وتوسع لنحو الجملة ومتمم له في المفهوم والوظيفة، ولما احتوى الأول على علوم شتى، واستخدام أدوات كثيرة منها القديم ومنها الحديث تميز وسطع نجمه، وارتفع شأنه، وإن كان نحو الجملة أصله، والذي يسلمه النتائج التي يبنى عليها نتائجه هو أيضاً، فنحو الجملة يتناول أجزاءها، وما يسمى بالعمد والفضلات والتقديم والتأخير وتحديد مواقع الكلمات الإعرابية، ثم يأتي بعده نحو النص صاحب المستوى الرفيع، فينظر إلى الجملة من حيث وظيفتها النحوي وموقعها الإعرابي، كما ينظر أيضاً في علاقات الجمل بعضها ببعض أهي علاقة انقطاع أم علاقة اتصال؟، ثم يتناول أيضاً بعد هذا المستوى علاقة النصوص بعضها ببعض، فاهتمام نحو النص بنحو الجملة تابع من كون الجملة تمثل وحدة صغرى داخل وحدة كبرى هي النص، فلم ينشأ نحو النص من فراغ، وإنما هو تطور لمعطيات نحو الجملة، فالجملة المقطوعة أو الجملة التعليمية تُجتاز عن طريق نحو النص ذي الوحدات المتراكبة، الذي اهتم بالبنى السطحية والبنى العميقة، ويتجه إلى التحديد الدلالي، فضلاً عن النحو التفسيري، والوصفي، والتوليدي.
أما عن اختصاص كل منهما، فيختص نحو الجملة بالوفاء بالمعاني الداخلية الكامنة وراء الجمل، فضلاً عن المفردات واستقلال الجملة داخل النص، والإطراد، والمعيارية، والإطلاق، واقتصار العلامة على حدود الجملة.
ويختص نحو النص بالقصد والتناص والمقامية والإعلامية والقبول، ويشترك نحو النص ونحو الجملة في السبك والحبك.
وبذا تكون العلاقة بينهما علاقة تداخل، فما النص إلا نتاج متماسك من الجمل، ولم ينشأ الترابط في حقيقة الأمر إلا على مستوى الجملة أولاً، ثم ينتقل بعده إلى مستوى النص.
وإنا إذ تقدم نحو الجملة على نحو النص في الدراسة فذلك ترتيب منطقي عقلاني؛ لأن في ذلك تقديم للأصل على الفرع، والخفيف على الثقيل، والمجمل على المفصل، والبسيط على المركب.
وتحليل النصوص يقتضي تقسيمها إلى مقاطع أو أجزاء متماسكة يحتوي كل عنصر منها على عدد من الجمل المترابطة التي ينتقل الترابط منها إلى مستوى النص، تلك الأجزاء والمقاطع يتكون كل منها بطبيعة الحال من عدد من الجمل المترابطة ترابطاً دلالياً من حيث كونها تعبر عن جزء من الدلالة الكلية للنص، فكل جملة في النص لا تقدم إلا معلومة محدودة، أو معلومات، تسهم مع المعلومات التي تتضام بقوة في بيئة واحدة، فكل جملة تسهم في فهم ما تليها، فتسهم المتقدمة في فهم المتأخرة، أو العكس، بحيث لا يتحقق المعنى من خلال معنى الأجزاء مستقلة، بل من خلال معاني الأجزاء وتآزرها في بيئة كلية كبرى هي النص.
ينتج عن الربط بين نحو الجملة ونحو النص أمور هامة جداً منها معرفة دور كل منهما، ومدى تأثير أحدهما على الآخر، وتأثره به، وكذلك معرفة جهد الأقدمين الذي بذلوه لهذا العلم، فقد بذلوا كل جهد وعطاء، فنحو النص يبدأ بنحو الجملة، وواضع نحو الجملة هم الأقدمون هذه واحدة، أما الثانية فإن ما وصل إليه المحدثون اليوم هو استكمال لما بدأه وأنضجه الأقدمون، ولولا الله -سبحانه وتعالى- ثم هؤلاء لما كان نحوٌ، ثم يتلوه لما كان نص، فكيف يوجد نحو النص إن لم يكن هناك نحو ولا نص؟!، بل وما وصل إليه المحدثون وصل إلى قريب منه الأقدمون مع اختلاف بسيط في الصيغ والعرض والمصطلح والتقسيم، ولسنا ولا غيرنا يستطيع أن يتجاهل قروناً ظلت عاملة مجاهدة حيال هذا العلم الذي حفظ الله تعالى به كتابه، والعربية من التحريف والتبديل والضياع، فكتاب سيبويه على سبيل المثال لا الحصر قد تناول علوم العربية بأصولها ومخارجها وصرفه�
سنة النشر : 2009م / 1430هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 2.4 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة:
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني و يمكنك تحميله من هنا:
شكرًا لمساهمتكم
شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:
قبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'