❞ رواية كانيبال ❝

❞ رواية كانيبال ❝

لطالما كانت معاملة الأمهات والآباء لأبنائهم تثير الاستغراب وتطرح الكثير من علامات الحيرة، فهي لا تخلو من تناقض بادي للعيان في الأقوال والأفعال.
ففي ظاهر الكلام غالبا ما تكون الأم سليطة اللسان حيال أبنائها فتجدها تقسو عليهم بألفاظ قارصة خشنة منافية تماما لطبع الأم الحنون العطوف، إذ أنها لا تترد ولا لحظة، إن كان أحد أبنائها كسولا أو بليدا، أو قام بأفاعيل تهتكية ومشاكل تجلب العار إلى شرفه الشخصي أو العائلي أو حدثت أمور لا تنال رضاها، في أن تشتمه واصفة إياه بألقاب نابية وقبيحة على غرار: البهلول، وجه الشر، كلب الزنق، الجايح، المصيبة، أو تدعو عليه بدعوات السوء مثل: الله يصفر وجهك، الله يجيبلك النو، الله يسود لك السعد، الله يجيب لك الحب لحمر، طريق السد لي تدي ما ترد، دون أن تعني بهذيانها شيئا ودون أن تكون لها نية حقيقية في حصول مكروه أو إصابته بالضرر أو تعرضه للأذى، وإنما تصدر منها عن غير وعي بغرض إشفاء غليل انفعالها وإفراغ شحنة غضبها، لا غير.

أما في باطن الأمر فإن هذه الأم تكِنّ لفلذات أكبادها حبا عظيما لا يحاكيه حب في الكون، ورغم أنه نادرا ما تبدي حبها علنا إلا أنه لا أحد بإمكانه أن يشك يوما في أن الأم تنسى أن تلفظ أسماء أبنائها داعية لهم بالصون والتوفيق أثناء صلواتها ودعواتها الضارعة للخالق. في الواقع لا يتجلى حبها إلا من خلال أفعالها التي تكون، في أغلب الأحايين، خفية، فهي أحيانا تستيقظ في ثنايا الليل لتتفقد وتطمئن على أبنائها أثناء نومهم، وأحيانا أخرى يجافيها النوم إن غاب أحد أبنائها أو تأخر في العودة إلى البيت ليلا، كما أنها تتكرم بحصتها من الطعام لابنائها دون تذمر، أو تتوسط للابن إذا ما أراد طلب مبلغ من المال من عند أبيه.

أما أرباب العائلة فعلاقاتهم توشك تماما أن تخلو خلوا مجحفا من جل معاني العاطفة اتجاه أبنائهم سواء في الظاهر أو خلف الستار. فهم يفتقرون للتعبير العلني عن مشاعرهم حيث قلما تشاهد أبا يضم ابنه إلى صدره أو يبدي حبه له أمام الملأ أو يظهر شيئا من عواطفه على مرأى من الآخرين. ورغم كونهم ليسوا من صنف الآباء الأفظاظ الغلاظ الذين يميلون إلى تحقير الأبناء، غير أنهم يتعمدون وضع المسافات ورسم الخطوط الحمراء بينهم وبين الأبناء كحدود محظورة لا يمكن تجاوزها للمحافظة على بقاء هيبتهم وسلطتهم قائمة.
ويعود هذا الجفاء والجفاف العاطفي إلى عوامل عديدة مؤثرة، ربما من بينها تأثير المجتمع فأهالي القرية يتمتع معظم أفرادها بعقلية تَعتبر أن العاطفة هي من شيم النساء المميزة. وما ينبغي أن يتّسم به الرجل، إلى جانب صلابته وقسوته، هو أن تكون مشاعره منزهة وخالية من العاطفة وإلا فيعتبر في نظرهم عديم الفحولة.
وربما يمكن ترجيح ذلك، من جهة أخرى، إلى عاملي التنشئة والتكوين، ومرورهم بطفولة تعيسة، حيث اقترنت نشأة العديد من الآباء بفترات حروب أو صراعات أهلية عانوا فيها من الفقر والبؤس، وشقاء المعيشة، والقهر والحرمان من الطعام والملابس، ذلك ما يدفعهم إلى التفكير في أنفسهم على أنهم جيل صلب، يختلف عن الأجيال التي لحقت بعدهم، ويميلون إلى استذكار معيشتهم البائسة التي مرّوا بها في الحروب كلما طالب أحد الأبناء بشراء ملابس جديدة، أو أبدى استيائه من وجبة غذاء أو عشاء، فتجدهم يرددون على مسامع ابنائهم عبارات نقشت في أذهانهم من أثر تكرارها: ((البس واسكت، في وقتنا لم يكن يوجد ما نكسو به جلودنا، كنا نرتدي خرقا بالية مرقعة من كل جانب نرتقها بأيدينا))، ((كل واسكت، أنتم محظوظون بأكل التفاح والموز، في وقتنا كنا نقتات على فتات الخبز، وكنا نعتقد أن تلك الفواكه لا توجد إلا في الجنة))
-
من - مكتبة .

نبذة عن الكتاب:
كانيبال

2019م - 1447هـ
لطالما كانت معاملة الأمهات والآباء لأبنائهم تثير الاستغراب وتطرح الكثير من علامات الحيرة، فهي لا تخلو من تناقض بادي للعيان في الأقوال والأفعال.
ففي ظاهر الكلام غالبا ما تكون الأم سليطة اللسان حيال أبنائها فتجدها تقسو عليهم بألفاظ قارصة خشنة منافية تماما لطبع الأم الحنون العطوف، إذ أنها لا تترد ولا لحظة، إن كان أحد أبنائها كسولا أو بليدا، أو قام بأفاعيل تهتكية ومشاكل تجلب العار إلى شرفه الشخصي أو العائلي أو حدثت أمور لا تنال رضاها، في أن تشتمه واصفة إياه بألقاب نابية وقبيحة على غرار: البهلول، وجه الشر، كلب الزنق، الجايح، المصيبة، أو تدعو عليه بدعوات السوء مثل: الله يصفر وجهك، الله يجيبلك النو، الله يسود لك السعد، الله يجيب لك الحب لحمر، طريق السد لي تدي ما ترد، دون أن تعني بهذيانها شيئا ودون أن تكون لها نية حقيقية في حصول مكروه أو إصابته بالضرر أو تعرضه للأذى، وإنما تصدر منها عن غير وعي بغرض إشفاء غليل انفعالها وإفراغ شحنة غضبها، لا غير.

أما في باطن الأمر فإن هذه الأم تكِنّ لفلذات أكبادها حبا عظيما لا يحاكيه حب في الكون، ورغم أنه نادرا ما تبدي حبها علنا إلا أنه لا أحد بإمكانه أن يشك يوما في أن الأم تنسى أن تلفظ أسماء أبنائها داعية لهم بالصون والتوفيق أثناء صلواتها ودعواتها الضارعة للخالق. في الواقع لا يتجلى حبها إلا من خلال أفعالها التي تكون، في أغلب الأحايين، خفية، فهي أحيانا تستيقظ في ثنايا الليل لتتفقد وتطمئن على أبنائها أثناء نومهم، وأحيانا أخرى يجافيها النوم إن غاب أحد أبنائها أو تأخر في العودة إلى البيت ليلا، كما أنها تتكرم بحصتها من الطعام لابنائها دون تذمر، أو تتوسط للابن إذا ما أراد طلب مبلغ من المال من عند أبيه.

أما أرباب العائلة فعلاقاتهم توشك تماما أن تخلو خلوا مجحفا من جل معاني العاطفة اتجاه أبنائهم سواء في الظاهر أو خلف الستار. فهم يفتقرون للتعبير العلني عن مشاعرهم حيث قلما تشاهد أبا يضم ابنه إلى صدره أو يبدي حبه له أمام الملأ أو يظهر شيئا من عواطفه على مرأى من الآخرين. ورغم كونهم ليسوا من صنف الآباء الأفظاظ الغلاظ الذين يميلون إلى تحقير الأبناء، غير أنهم يتعمدون وضع المسافات ورسم الخطوط الحمراء بينهم وبين الأبناء كحدود محظورة لا يمكن تجاوزها للمحافظة على بقاء هيبتهم وسلطتهم قائمة.
ويعود هذا الجفاء والجفاف العاطفي إلى عوامل عديدة مؤثرة، ربما من بينها تأثير المجتمع فأهالي القرية يتمتع معظم أفرادها بعقلية تَعتبر أن العاطفة هي من شيم النساء المميزة. وما ينبغي أن يتّسم به الرجل، إلى جانب صلابته وقسوته، هو أن تكون مشاعره منزهة وخالية من العاطفة وإلا فيعتبر في نظرهم عديم الفحولة.
وربما يمكن ترجيح ذلك، من جهة أخرى، إلى عاملي التنشئة والتكوين، ومرورهم بطفولة تعيسة، حيث اقترنت نشأة العديد من الآباء بفترات حروب أو صراعات أهلية عانوا فيها من الفقر والبؤس، وشقاء المعيشة، والقهر والحرمان من الطعام والملابس، ذلك ما يدفعهم إلى التفكير في أنفسهم على أنهم جيل صلب، يختلف عن الأجيال التي لحقت بعدهم، ويميلون إلى استذكار معيشتهم البائسة التي مرّوا بها في الحروب كلما طالب أحد الأبناء بشراء ملابس جديدة، أو أبدى استيائه من وجبة غذاء أو عشاء، فتجدهم يرددون على مسامع ابنائهم عبارات نقشت في أذهانهم من أثر تكرارها: ((البس واسكت، في وقتنا لم يكن يوجد ما نكسو به جلودنا، كنا نرتدي خرقا بالية مرقعة من كل جانب نرتقها بأيدينا))، ((كل واسكت، أنتم محظوظون بأكل التفاح والموز، في وقتنا كنا نقتات على فتات الخبز، وكنا نعتقد أن تلك الفواكه لا توجد إلا في الجنة)) .
المزيد..

تعليقات القرّاء:


 

أمسك خليل كاميرا التصوير المعلقة حول رقبته، وقرب عدستها إلى إحدى عينيه، كان ثمة الكثير من الأشياء ليلتقطها، وقع نظره على شيوخ مسنين مستسلمين لآخر العمر،  بلحى طويلة ووجوه مهترئة وعيون ذابلة والرؤوس تختفي تحت قبعات القش، كانوا ممدين وسط ساحة القرية الترابية، غير آبهين البتة بلسعات أشعة الشمس التي أشرقت باكرا في هذه الصبيحة،كان هناك أيضا أطفال مخاطيون يتراشقون بالحجارة في سعادة عارمة،  لكن ما لفت أنظار خليل بشدة أولئك الشباب العاطلون الذين يملؤون شوارع وزوايا وجدران القرية. يتبادلون نظرات فارغة كنظرات الأجواء الجنائزية. كانوا في حيرة من أمرهم لا يجدون شغلا يملؤون به فراغ النهار، لذا يقضون جلّ أوقاتهم في الالتصاق بالجدران وتدخين لفائف حشيش متقنة الصنع. تلك اللفائف التي أضحت تشكل ملاذًا للهروب من واقعهم المحبط، فتحيلهم كتلة صماء إزاء ما يدور حولهم من منغصات، وتجعلهم يكفون عن طرح التساؤلات حول مستقبل غامض المعالم صار يؤرق نهاراتهم كما لياليهم. فقدوا الأمل، منذ أمد بعيد، في أنه سيفتح لهم ذراعيه في يوم من الأيام. كان طول انتظارهم له، الفارغ من أدنى إشارة تدل على قدومه، كافيا ليجعلهم يتيقنون أنه ليس سوى خرافة كبيرة، غودو الذي لن يأتي أبدا



سنة النشر : 2019م / 1440هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة كانيبال

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

الناشر:
دار ومضة للنشر والتوزيع والترجمة
كتب دار ومضة للنشر والتوزيع والترجمةدار نشر جزائرية. المزيد.. كتب دار ومضة للنشر والتوزيع والترجمة