دموع
2024م - 1446هـ
بينما كانت تجلس في شرفتها المُطلَّة على الشارع الرئيسي الذي تقطن فيه تطالع الأخبار كعادتها اليومية ، وصلها خبر حزين وقع على مسامعها كالصاعقة ، لم تكن تدري كيف تتصرف ، أصابها الذهول والصمت لبعض الوقت ثم جنَّ جنونها ، الأمر الذي دفعها لتجهيز أمتعتها لزيارة والدتها التي أجرت مؤخراً جراحة لم تكن على علم بها ، فقد كتَّمت على الخبر وأخفته عن الجميع خشية إخافة أحد أو إدخال الذعر لقلبه ، فلم ترغب يوما في وضع همومها على كاهل أحد وهذا ما كان يزعج الجميع ، بعدما انتهت من تحضير الحقيبة فكرت في أمر الأبناء فأين يمكن تركهم وسط تلك الظروف العصيبة ثم سرعان ما لجأت لجارتها سائلة إياها أنْ ترعاهم في غيابها فلا يمكنها اصطحابهم معها لرؤية جدتهم في هذا الوضع المذري مطلقاً ، وقد احتوت الموقف في عُجالة ولم تتأخر عن مساعدتها وطلبت منها أنْ تطمئنها فور انتهاء الجراحة ، وعلى الفور انطلقتْ مسرعةً إلى مكان المشفى وكان الطبيب قد بدأ في إجراء اللازم من أجل إنقاذ أمها ، وفي الردهة صارت تذهب وتجئ آلاف المرات بفعل التوتر والارتباك الذي سيطر عليها حينها فلم تَمُر بموقف عصيب كهذا من قَبْل ، وفور انفتاح باب الغرفة ركضتْ نحو الطبيب وطلبت منه أنْ يطمئنها على الوضع الحالي الذي صارت عليه أمها ، فأخبرها أن كل شيء صار على ما يُرام ولكنها بحاجة لبعض الراحة فحَسب ولا عليها أنْ تبذل أي جَهد ولو بسيط وسمح لها بالمغادرة في اليوم التالي ، وحينما أفاقت دخلتْ الحجرة من أجل الاطمئنان عليها لم تتمالك نفسها وأجهشت في بكاء لا يكاد يتوقف حتى يعود مرة أخرى إلى أنْ هدَّأ جميع الزوار من روعها وطلبوا منها الثبات والصمود من أجل رعايتها عقب خروجها من المشفى ، فرضخت لطلبهم فقد كانوا مُحقِّين بالفعل ، وفي اليوم التالي كُتِب لها إذن بالانصراف ، فساعدتها حتى خرجتا بسَلام من هذا المكان المُقبِض فلم تحب مثل تلك الأماكن طوال حياتها ولم ترغب في زيارتها ذات يوم ، توجهتْ نحو السيارة وكانت قد طلبت من السائق أن يقلهما إلى منزلها ، رفضت أمها في بادئ الأمر فلم ترغب يوماً أنْ تُثقِل على أحد أو تزيد همومه أو ترمي عليه حمولها ولكن بمزيد من المحاولات أقنعتْها أن البيت شاسع براح يسع الكثيرين ولا بد من نيل قسط من الراحة فأين ستعثر عليها إنْ لم يكن بيتها مفتوحاً لاستضافتها فهي أغلى ما تملك ولا تتصور حياتها بَلاها ، فيكفي القلق الذي ساورها في غيابها تلك الساعات التي قضتها في غرفة العمليات ، وافقت على الفور وقد كان كل شيء معدَّاً خصيصاً لها من قَبْل ، وقد أرسلت لجارتها لتُخبِرها أنها قادمة من أجل استعادة الأبناء فقد انتهى كل شيء للتو ، لقد اهتمت بشأن الأبناء في غيابها تلك الأيام وهذا أمرٌ في غاية اللُّطف وقمة الذوق ، كانت ودودة معها دوماً ، تبادر في السؤال عنها ، تبادلها نفس المشاعر ، تخشى عليها من أي مُصاب قد يَحِلُّ بها أو مشكلة تعترض حياتها وقد أنقذتها في تلك المِحنة التي مرَّت بسلام بفضل الله ، فلولا يقينها في الله ما مرت من تلك الأزمة القاتلة بتلك الروح الصابرة الشامخة الأبية رُغم ما اعتراها من خوف وما سكَنها من قلق وذُعر أغلب الوقت ، فكما تظهر معادن الناس وقت الشدائد والكُرَب تظهر حقيقة النفس وقدرتها على التحمُّل وحمد الله في الضراء قبل السراء فكل أقدار الله خير ولو لم نعلم الحكمة منها في بعض الأوقات ، فعلينا أنْ نقبلها ونتفاعل معها دون تذمُّر أو تأفف أو ضيق أو امتعاض حتى تمر تلك السحابة العاصفة بسلام وتعود الحياة لمجراها الطبيعي مرة أخرى ، فتلك الظروف أشبه بتقلبات المناخ فمهما اشتدت أو عصفت بنا ستُزاح لا مَحالة بمزيد من الصبر والتحدي والصمود والتصدي لها دون جزع وهذا نابع من ثقة العبد في ربه وحُسن ظنه فيه وتوكُّله عليه في كل شئون الحياة فهو مَنْ يقول للشيء كُنْ فيكون وقادر على تبديل الأحوال كما يشاء بين ليلة وضحاها ..
. المزيد..