❞ رواية عدوس السرى ❝  ⏤ إبراهيم الكوني

❞ رواية عدوس السرى ❝ ⏤ إبراهيم الكوني

"قبل أن يبتلع قوس الأفق الدامي اهتديت إلى الآثر، كان خف البعير مطبوعاً على سجاد الحصباء بوضوح، كان طازجاً أيضاً، متجهاً صوب الغرب، فتشبتت به، لزمت الأثر كأنه طوق النجاة، كان التشبث بأثر الخفّ المرسوم على الأرض إستجابةً لهاجسٍ غامض، بل تلبيةً لنداء عزيزة لأني لم أدرك صواب فعلي إلى فيما بعد؛ كما لم أفلح في تأويله التأويل الصحيح إلا بعد أن اجتزت مغازات كثيرة، وعشت في دنياي أهو ألا جسيمة، ولكن ها هي الظلمة تتمادى، وصقيع الشتاء الصحراوي يعلى عن نفسه، لأن سوء الحظ أي ألا أن يبتليني بالنية في فصل الشتاء، ولم يكتف بهذا القصاص، ولكنه ثنّى عامداً فجرّد ليلى من القمر أيضاً، كأن الثالوث الذي رأيته تالياً كنبوءة كان في عنقي قدراً منذ التكوين: التيه هويةً، والإسراء ليلاً، والسعي في وطنٍ محبوك من عدم!...

لم أتخيل بالطبع أن عَدُوس السُّرَىَ الذي تلقفني في تجربة ذلك التاريخ البعيد سيكون في المصير الذي سيتلبسني طوال تلك الرحلة التي لم تكن سيرة بقدر ما كانت تخبطاً موجعاً في ظلمات ليلٍ بهيم يكشكش في دروبه الأفاعي، ويعلو في فضائه صليل أنصال الأعادي! مع هبوط الليل وتسلّط الصقيع فقط اكتشفت إني عارٍ آلاف ذلك الثوب البائس الفضفاض الذي لا يكاد يستر البدن فكيف بقي من جليد "تينغرت" الذائع الصيت إذا كان لا يستر كامل الجسد؟...

لقد أيقنت الآن أن البرد الذي ينام في نخاع عظام هذا الجسد الذي أعجزتني في مداواته الحيلة والوسيلة ليس من صنيع الإقامة في روسيا، أو بولونيا، أو ثلوج الألب، بقدر ما كان صنيع جليد الحمادة، بل صنيع جليد التيه في تلك الليلة، هجمت في العراء العاري بعد إكتمال هيمنة الظلام... هجعت على الفرشة الحجرية متخذاً من ذراي العارية من الكمّ وسادة، لسعتني الحجارة بجمّة الصقيع لكني تجلدت، تطلعت إلى السماء فإذا بها تزدهر بالنجوم كأنها بالوميض في محفل، غير آبهة بمحنة المخلوق الضئيل الذي يهجع في الحضيض وحيداً، عاجزاً، أعزلاً.

بلى! كان الإحساس بالعزلة هو الكنز الذي اختزلته من تلك التجربة ليكون حجر الزاوية في كيان الثالوث، أقول أنه كنز لأنه القدر الذي لا يخذل، أقول الكنز لأن من غلغل النظر في العزلة فتغلغلت فيه العزلة وحده لا يهزم يحدث هذا ربما بسبب سوء التقدير، فالمعتزل الذي يحبسه الأغبار ليس معتزلاً كما يبتدّى، صاحب العزلة لا مصير صاحب عزلةٍ ما لم يحقق التماهي مع الطبيعة، ويغترب عن نفسه ليستعيد حضوره في الكون في هذا لابعد لا يعود وحيداً، لأن البرزخ ينقشع فيسكن الأرباب التي نراها مجهولة فتسكنه الأرباب.

ولهذا لا يستحي المعتزل أن يتكلم في عزلته بصوتٍ عالٍ لأنه لا يكلم نفسه على طريقة المجانين، ولكنه يخاطب آلهة، فهل يخاف، أو يعرف البلبال، أو يجبن من يسامر آلهة؟... غربة وإبداع وإستنطاق للذاكرة من خلال رحلة هي بجملتها لعبه بين الحرف وظلّ الحرف، أو لعبة بين المبدأ الوقتي الذي يُرى، وقرينه الأبدي المغمور في الغيوب الذي يؤكد حضوراً برغم إحتجابه بستور البعد المفقود.

وهكذا ومن خلال قصة إغتراب عدوس السرى وكأن إبراهيم الكوني يروي حكاية رحلة... رحلة لإستجلاء الحقيقة: حقيقة إغترابه في هذا الوجود، وإلى جانب الوجودي كإنسان، هناك إغترابه عن الهوية الثقافية بسبب الإنتماء إلى أقلية عرقية، وإغتراب آخر له هوقسري تمثل في هجرة قسرية عن مسقط الرأس وأرجوحة التكوين (الصحراء) ليتواصل هذا الإغتراب في إغتراب أشمل تمثل في خروجه من الوطن الأم لتصير إقامته في الإغتراب هي وطن فريد البيان، لأن ما هي إرادة البيان أساسياً إن لم تكن ضرباً من إرادةٍ الإغتراب...

وإذا كان الكوني وكما يقول قد حاول رصد الحضور في البعد المفقود من خلال عشرات الأعمال الإستعارية الصادرة له حتى الآن، أفلا يحق له أخيراً أن يشهد رصد الحضور في بعد الوجود بتأمل الرحلة من هذا الجانب أيضاً؟... لأمن ما هي دنيانا إن لم تكن متاهة إغتراب كلٌّ منّا فيها تحدد سُرَى؟
إبراهيم الكوني - إبراهيم الكوني كاتب ليبي طارقي يؤلف في الرواية والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية والتاريخ والسياسة. اختارته مجلة لير الفرنسية أحدَ أبرز خمسين روائياً عالمياً معاصراً، وأشادت به الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية والرسمية في أوروبا وأمريكا
❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مراثي أوليس ❝ ❞ برق الخُلب ❝ ❞ نزيف الروح ❝ ❞ رسول السماوات السبع ❝ ❞ يعقوب وأبناؤه ❝ ❞ كلمة الليل في حق النهار ❝ ❞ نداء ما كان بعيدًا ❝ ❞ من أساطير الصحراء ❝ ❞ قابيل.. أين أخوك هابيل ❝ الناشرين : ❞ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❝ ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ الدار المصرية اللبنانية ❝ ❞ دار كيان للنشر والتوزيع ❝ ❞ رياض الريس للكتب والنشر ❝ ❞ دار الآداب ❝ ❞ الدار الثقافية للنشر ❝ ❞ دار سؤال للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الاعلان ❝ ❞ دار الملتقى للطباعة والنشر ❝ ❞ دار الصدي ❝ ❱
من كتب الروايات والقصص - مكتبة القصص والروايات والمجلّات.


اقتباسات من رواية عدوس السرى

نبذة عن الكتاب:
عدوس السرى

2012م - 1445هـ
"قبل أن يبتلع قوس الأفق الدامي اهتديت إلى الآثر، كان خف البعير مطبوعاً على سجاد الحصباء بوضوح، كان طازجاً أيضاً، متجهاً صوب الغرب، فتشبتت به، لزمت الأثر كأنه طوق النجاة، كان التشبث بأثر الخفّ المرسوم على الأرض إستجابةً لهاجسٍ غامض، بل تلبيةً لنداء عزيزة لأني لم أدرك صواب فعلي إلى فيما بعد؛ كما لم أفلح في تأويله التأويل الصحيح إلا بعد أن اجتزت مغازات كثيرة، وعشت في دنياي أهو ألا جسيمة، ولكن ها هي الظلمة تتمادى، وصقيع الشتاء الصحراوي يعلى عن نفسه، لأن سوء الحظ أي ألا أن يبتليني بالنية في فصل الشتاء، ولم يكتف بهذا القصاص، ولكنه ثنّى عامداً فجرّد ليلى من القمر أيضاً، كأن الثالوث الذي رأيته تالياً كنبوءة كان في عنقي قدراً منذ التكوين: التيه هويةً، والإسراء ليلاً، والسعي في وطنٍ محبوك من عدم!...

لم أتخيل بالطبع أن عَدُوس السُّرَىَ الذي تلقفني في تجربة ذلك التاريخ البعيد سيكون في المصير الذي سيتلبسني طوال تلك الرحلة التي لم تكن سيرة بقدر ما كانت تخبطاً موجعاً في ظلمات ليلٍ بهيم يكشكش في دروبه الأفاعي، ويعلو في فضائه صليل أنصال الأعادي! مع هبوط الليل وتسلّط الصقيع فقط اكتشفت إني عارٍ آلاف ذلك الثوب البائس الفضفاض الذي لا يكاد يستر البدن فكيف بقي من جليد "تينغرت" الذائع الصيت إذا كان لا يستر كامل الجسد؟...

لقد أيقنت الآن أن البرد الذي ينام في نخاع عظام هذا الجسد الذي أعجزتني في مداواته الحيلة والوسيلة ليس من صنيع الإقامة في روسيا، أو بولونيا، أو ثلوج الألب، بقدر ما كان صنيع جليد الحمادة، بل صنيع جليد التيه في تلك الليلة، هجمت في العراء العاري بعد إكتمال هيمنة الظلام... هجعت على الفرشة الحجرية متخذاً من ذراي العارية من الكمّ وسادة، لسعتني الحجارة بجمّة الصقيع لكني تجلدت، تطلعت إلى السماء فإذا بها تزدهر بالنجوم كأنها بالوميض في محفل، غير آبهة بمحنة المخلوق الضئيل الذي يهجع في الحضيض وحيداً، عاجزاً، أعزلاً.

بلى! كان الإحساس بالعزلة هو الكنز الذي اختزلته من تلك التجربة ليكون حجر الزاوية في كيان الثالوث، أقول أنه كنز لأنه القدر الذي لا يخذل، أقول الكنز لأن من غلغل النظر في العزلة فتغلغلت فيه العزلة وحده لا يهزم يحدث هذا ربما بسبب سوء التقدير، فالمعتزل الذي يحبسه الأغبار ليس معتزلاً كما يبتدّى، صاحب العزلة لا مصير صاحب عزلةٍ ما لم يحقق التماهي مع الطبيعة، ويغترب عن نفسه ليستعيد حضوره في الكون في هذا لابعد لا يعود وحيداً، لأن البرزخ ينقشع فيسكن الأرباب التي نراها مجهولة فتسكنه الأرباب.

ولهذا لا يستحي المعتزل أن يتكلم في عزلته بصوتٍ عالٍ لأنه لا يكلم نفسه على طريقة المجانين، ولكنه يخاطب آلهة، فهل يخاف، أو يعرف البلبال، أو يجبن من يسامر آلهة؟... غربة وإبداع وإستنطاق للذاكرة من خلال رحلة هي بجملتها لعبه بين الحرف وظلّ الحرف، أو لعبة بين المبدأ الوقتي الذي يُرى، وقرينه الأبدي المغمور في الغيوب الذي يؤكد حضوراً برغم إحتجابه بستور البعد المفقود.

وهكذا ومن خلال قصة إغتراب عدوس السرى وكأن إبراهيم الكوني يروي حكاية رحلة... رحلة لإستجلاء الحقيقة: حقيقة إغترابه في هذا الوجود، وإلى جانب الوجودي كإنسان، هناك إغترابه عن الهوية الثقافية بسبب الإنتماء إلى أقلية عرقية، وإغتراب آخر له هوقسري تمثل في هجرة قسرية عن مسقط الرأس وأرجوحة التكوين (الصحراء) ليتواصل هذا الإغتراب في إغتراب أشمل تمثل في خروجه من الوطن الأم لتصير إقامته في الإغتراب هي وطن فريد البيان، لأن ما هي إرادة البيان أساسياً إن لم تكن ضرباً من إرادةٍ الإغتراب...

وإذا كان الكوني وكما يقول قد حاول رصد الحضور في البعد المفقود من خلال عشرات الأعمال الإستعارية الصادرة له حتى الآن، أفلا يحق له أخيراً أن يشهد رصد الحضور في بعد الوجود بتأمل الرحلة من هذا الجانب أيضاً؟... لأمن ما هي دنيانا إن لم تكن متاهة إغتراب كلٌّ منّا فيها تحدد سُرَى؟ .
المزيد..

تعليقات القرّاء:



سنة النشر : 2012م / 1433هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة عدوس السرى

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

المؤلف:
إبراهيم الكوني - Ibrahim Al Koni

كتب إبراهيم الكوني إبراهيم الكوني كاتب ليبي طارقي يؤلف في الرواية والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية والتاريخ والسياسة. اختارته مجلة لير الفرنسية أحدَ أبرز خمسين روائياً عالمياً معاصراً، وأشادت به الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية والرسمية في أوروبا وأمريكا ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مراثي أوليس ❝ ❞ برق الخُلب ❝ ❞ نزيف الروح ❝ ❞ رسول السماوات السبع ❝ ❞ يعقوب وأبناؤه ❝ ❞ كلمة الليل في حق النهار ❝ ❞ نداء ما كان بعيدًا ❝ ❞ من أساطير الصحراء ❝ ❞ قابيل.. أين أخوك هابيل ❝ الناشرين : ❞ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❝ ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ الدار المصرية اللبنانية ❝ ❞ دار كيان للنشر والتوزيع ❝ ❞ رياض الريس للكتب والنشر ❝ ❞ دار الآداب ❝ ❞ الدار الثقافية للنشر ❝ ❞ دار سؤال للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الاعلان ❝ ❞ دار الملتقى للطباعة والنشر ❝ ❞ دار الصدي ❝ ❱. المزيد..

كتب إبراهيم الكوني
الناشر:
المؤسسة العربية للدراسات والنشر
كتب المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ جحا و الحمار الناقص ❝ ❞ الأبجدية ❝ ❞ يسمعون حسيسها ❝ ❞ أسطورة ميسيا ❝ ❞ اسطورة بيت الأشباح ❝ ❞ المدخل الي علم النفس الحديث ❝ ❞ في ساعة نحس ❝ ❞ جحا والضيف المريض ❝ ❞ ذاكرة للنسيان ❝ ❞ يا صاحبى السجن ❝ ❱.المزيد.. كتب المؤسسة العربية للدراسات والنشر