❞ رواية البحث عن المكان الضائع ❝  ⏤ إبراهيم الكوني

❞ رواية البحث عن المكان الضائع ❝ ⏤ إبراهيم الكوني

"أما هو، غريب الأجيال، وسليل اللعنات، وصاحب الأتان الخالد، فقد توارى وراء الرابية الرملية، وطفق يشاهد المحفل خلسة. وعندما بدأ المأتم الأبدي، ونزفت قلوب الصبايا حنيناً، ارتجّ أيضاً، وترنح، وتزعزع بوجود لم تعرف له خليقة الصحراء مثيلاً حتى أنه أطلق شهقة مميتة كاد يخسر بسببها نفسه لو لم ينطلق ليرتاد الرحاب. لم يجدب بالجسد، ولم يطعن صدره بالمدية، ولم يحطم صدره بالحجارة، كما يفعل أهل الوجد البلهاء، ولكنه فرّ، فرّ من المكان، من وراء الرابية، من الواحدة، ومن الصحراء كلها. فرّ إلى البستان، ولكنه لم يلج الحصون. حام حول المكان الذي لا وجود فيه للمكان، وراقب في الحنين صاحب البستان الذي طرده يوماً من ملكه قبل أن يطرد "مندام" من الحَرَم، فتحسّر على خلوته الأبدية لأول مرّة، وتمنى لو جاء معه بالجنية "تامولي" لترى ما لم تره يوماً، ولتسمع ما لم تسعه يوماً، ولتلتقم ما لم تلتقمه يوماً. لوم امتلكت الشقية موهبة، أو نالت من الخفاء هبة، ورافقته في رحلة الآفاق، لأدركت السرّ، ولما تجاسرت بعدها بأن ترميه بخطيئة الجهل بالناموس، ولعرفت أن القصاص الذي نزل على رأس سليل الشقوة "مندام". وإذا كان في الصحراء ما يمكن أن يغفر للحسناء خطيئتها، فلن يكون ذلك غير أغنيتها الجنونية التي زعزعته وجردته من بدنه القبيح، فاستطاع أن يفرّ كما يفرّ الآن ليرتاد رحاب المجال التي لم يدركها سليل يوماً بالسبيل، لأنها تنام بعيداً في القلوب، حتى أنها لا تنال إلا بمارد أطلقت عليه القبائل اسم: الحنين! فهل هذا أنت حقاً أيها البستان القديم، وهل هذا أنت حقاً يا نهر العسل الممزوج باللبن؟ وهل هذه حقاً أنت يا شجرة الإبهام، وهل هذه أنت يا فاكهة الألغاز؟ وهل هذه أنت يا سورة المنتهى؟. فزّ فجأة. فزّ وطفق يركض. ركضة بسرعة الريح. بل بسرعة الجان. اجتاز الخلوة في غمضة. اجتاز حلقة النساء بقفزة جنونية وتوارى. بلغ الحقول في غمضتين. تخطى العين في ومضة أخرى، فانهار هناك، وشرح يرتجب وينتحب. سمع نفسه ينتحب كطفل فقد دميته".

في "البحث عن المكان الضائع" ماسحة لا متناهية لخيال غني ثري بمشاهد منفتحة على عالم الصحراء الغامض الذي يحمل أسراراً يحمل ألغازاً تبقي النفس رهينة يزيد منها هسيس حروف الكوني التي تنقل للقارئ حديث الصحراء في صمتها. وفي البحث عن المكان الضائع أفق واسع لأفكار تحمل في جذورها حكماً وفلسفة تحاكيانا الصحراء في عمق أبعادها وتماثلها في غرابة طبيعتها المتألية من الثورة العارمة إلى السكون المطبق. فالكوني ساكن الصحراء والملفوف بسحرها والمتأنق بروعة غموضها والمتسربل بعراقة أساطيرها، يقلب صفحاتها، وينقل للقارئ حكايا قاطنيها، ويأخذه وعلى غفلة منه إلى عالم الكهان والعرافين والساحرات وإلى عالم ذاك الغريب الذي يحمل عصا الترحال بحثاً عن مكانه الضائع.

ولأول وهلة تبقى وكقارئ وعندما تطأ عيناك سطور الرواية، تبقى مسحوراً مسلوب الإرادة مرتاداً وبرهبة ومتابعاً وبشغف مسيرة هذا الغريب الذي يغنيك الكوني ومن خلاله بفلسفة عميقة الأبعاد، إلا أنك وكقارئ أيضاً وإلى حين وصولك إلى آخر سطر تجد في ذاك الغريب شيئاً منك، وبعد استرجاع ما قرأت بتمعن تجد أنك ذاك الغريب الذي يمشي في هذه الحياة دون أن يلقي عصا الترحال بحثاً عن مكان ضائع له مفتقد.
إبراهيم الكوني - إبراهيم الكوني كاتب ليبي طارقي يؤلف في الرواية والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية والتاريخ والسياسة. اختارته مجلة لير الفرنسية أحدَ أبرز خمسين روائياً عالمياً معاصراً، وأشادت به الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية والرسمية في أوروبا وأمريكا
❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مراثي أوليس ❝ ❞ برق الخُلب ❝ ❞ نزيف الروح ❝ ❞ رسول السماوات السبع ❝ ❞ يعقوب وأبناؤه ❝ ❞ كلمة الليل في حق النهار ❝ ❞ نداء ما كان بعيدًا ❝ ❞ من أساطير الصحراء ❝ ❞ قابيل.. أين أخوك هابيل ❝ الناشرين : ❞ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❝ ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ الدار المصرية اللبنانية ❝ ❞ دار كيان للنشر والتوزيع ❝ ❞ رياض الريس للكتب والنشر ❝ ❞ دار الآداب ❝ ❞ الدار الثقافية للنشر ❝ ❞ دار سؤال للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الاعلان ❝ ❞ دار الملتقى للطباعة والنشر ❝ ❞ دار الصدي ❝ ❱
من كتب الروايات والقصص - مكتبة القصص والروايات والمجلّات.


اقتباسات من رواية البحث عن المكان الضائع

نبذة عن الكتاب:
البحث عن المكان الضائع

2003م - 1445هـ
"أما هو، غريب الأجيال، وسليل اللعنات، وصاحب الأتان الخالد، فقد توارى وراء الرابية الرملية، وطفق يشاهد المحفل خلسة. وعندما بدأ المأتم الأبدي، ونزفت قلوب الصبايا حنيناً، ارتجّ أيضاً، وترنح، وتزعزع بوجود لم تعرف له خليقة الصحراء مثيلاً حتى أنه أطلق شهقة مميتة كاد يخسر بسببها نفسه لو لم ينطلق ليرتاد الرحاب. لم يجدب بالجسد، ولم يطعن صدره بالمدية، ولم يحطم صدره بالحجارة، كما يفعل أهل الوجد البلهاء، ولكنه فرّ، فرّ من المكان، من وراء الرابية، من الواحدة، ومن الصحراء كلها. فرّ إلى البستان، ولكنه لم يلج الحصون. حام حول المكان الذي لا وجود فيه للمكان، وراقب في الحنين صاحب البستان الذي طرده يوماً من ملكه قبل أن يطرد "مندام" من الحَرَم، فتحسّر على خلوته الأبدية لأول مرّة، وتمنى لو جاء معه بالجنية "تامولي" لترى ما لم تره يوماً، ولتسمع ما لم تسعه يوماً، ولتلتقم ما لم تلتقمه يوماً. لوم امتلكت الشقية موهبة، أو نالت من الخفاء هبة، ورافقته في رحلة الآفاق، لأدركت السرّ، ولما تجاسرت بعدها بأن ترميه بخطيئة الجهل بالناموس، ولعرفت أن القصاص الذي نزل على رأس سليل الشقوة "مندام". وإذا كان في الصحراء ما يمكن أن يغفر للحسناء خطيئتها، فلن يكون ذلك غير أغنيتها الجنونية التي زعزعته وجردته من بدنه القبيح، فاستطاع أن يفرّ كما يفرّ الآن ليرتاد رحاب المجال التي لم يدركها سليل يوماً بالسبيل، لأنها تنام بعيداً في القلوب، حتى أنها لا تنال إلا بمارد أطلقت عليه القبائل اسم: الحنين! فهل هذا أنت حقاً أيها البستان القديم، وهل هذا أنت حقاً يا نهر العسل الممزوج باللبن؟ وهل هذه حقاً أنت يا شجرة الإبهام، وهل هذه أنت يا فاكهة الألغاز؟ وهل هذه أنت يا سورة المنتهى؟. فزّ فجأة. فزّ وطفق يركض. ركضة بسرعة الريح. بل بسرعة الجان. اجتاز الخلوة في غمضة. اجتاز حلقة النساء بقفزة جنونية وتوارى. بلغ الحقول في غمضتين. تخطى العين في ومضة أخرى، فانهار هناك، وشرح يرتجب وينتحب. سمع نفسه ينتحب كطفل فقد دميته".

في "البحث عن المكان الضائع" ماسحة لا متناهية لخيال غني ثري بمشاهد منفتحة على عالم الصحراء الغامض الذي يحمل أسراراً يحمل ألغازاً تبقي النفس رهينة يزيد منها هسيس حروف الكوني التي تنقل للقارئ حديث الصحراء في صمتها. وفي البحث عن المكان الضائع أفق واسع لأفكار تحمل في جذورها حكماً وفلسفة تحاكيانا الصحراء في عمق أبعادها وتماثلها في غرابة طبيعتها المتألية من الثورة العارمة إلى السكون المطبق. فالكوني ساكن الصحراء والملفوف بسحرها والمتأنق بروعة غموضها والمتسربل بعراقة أساطيرها، يقلب صفحاتها، وينقل للقارئ حكايا قاطنيها، ويأخذه وعلى غفلة منه إلى عالم الكهان والعرافين والساحرات وإلى عالم ذاك الغريب الذي يحمل عصا الترحال بحثاً عن مكانه الضائع.

ولأول وهلة تبقى وكقارئ وعندما تطأ عيناك سطور الرواية، تبقى مسحوراً مسلوب الإرادة مرتاداً وبرهبة ومتابعاً وبشغف مسيرة هذا الغريب الذي يغنيك الكوني ومن خلاله بفلسفة عميقة الأبعاد، إلا أنك وكقارئ أيضاً وإلى حين وصولك إلى آخر سطر تجد في ذاك الغريب شيئاً منك، وبعد استرجاع ما قرأت بتمعن تجد أنك ذاك الغريب الذي يمشي في هذه الحياة دون أن يلقي عصا الترحال بحثاً عن مكان ضائع له مفتقد. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:



سنة النشر : 2003م / 1424هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة البحث عن المكان الضائع

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

المؤلف:
إبراهيم الكوني - Ibrahim Al Koni

كتب إبراهيم الكوني إبراهيم الكوني كاتب ليبي طارقي يؤلف في الرواية والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية والتاريخ والسياسة. اختارته مجلة لير الفرنسية أحدَ أبرز خمسين روائياً عالمياً معاصراً، وأشادت به الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية والرسمية في أوروبا وأمريكا ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مراثي أوليس ❝ ❞ برق الخُلب ❝ ❞ نزيف الروح ❝ ❞ رسول السماوات السبع ❝ ❞ يعقوب وأبناؤه ❝ ❞ كلمة الليل في حق النهار ❝ ❞ نداء ما كان بعيدًا ❝ ❞ من أساطير الصحراء ❝ ❞ قابيل.. أين أخوك هابيل ❝ الناشرين : ❞ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❝ ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ الدار المصرية اللبنانية ❝ ❞ دار كيان للنشر والتوزيع ❝ ❞ رياض الريس للكتب والنشر ❝ ❞ دار الآداب ❝ ❞ الدار الثقافية للنشر ❝ ❞ دار سؤال للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الاعلان ❝ ❞ دار الملتقى للطباعة والنشر ❝ ❞ دار الصدي ❝ ❱. المزيد..

كتب إبراهيم الكوني
الناشر:
المؤسسة العربية للدراسات والنشر
كتب المؤسسة العربية للدراسات والنشر ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ جحا و الحمار الناقص ❝ ❞ الأبجدية ❝ ❞ يسمعون حسيسها ❝ ❞ أسطورة ميسيا ❝ ❞ اسطورة بيت الأشباح ❝ ❞ المدخل الي علم النفس الحديث ❝ ❞ في ساعة نحس ❝ ❞ جحا والضيف المريض ❝ ❞ ذاكرة للنسيان ❝ ❞ يا صاحبى السجن ❝ ❱.المزيد.. كتب المؤسسة العربية للدراسات والنشر