❞ كتاب الديكاميرون - الجزء الثاني ❝ ⏤ مجموعة من المؤلفين
في "الديكاميرون"، يتبادل واحد من الأشخاص العشرة كل ليلة قيادة دفة الروايات، التي يحكيها جميعهم عن مغامرات عاطفية أو ملحمية أو حتى جنسية قد تكون من الواقع أو من الخيال، لكنها كانت تهدف لتسليتهم وهم قابعون فى حدائق قصر فى قرية بعيدة، خوفًا من الطاعون الذي أثار الرعب فى المدينة، وكأنه كتبها ليستحضر ذكرى حبيبته التي قضت نحبها بسبب هذا الطاعون المفترس، الذي استشرى في جميع الأرجاء الأوروبية.
يبدأ "بوكّاتشو" روايته بوصف المأساة بكل تفاصيلها البائسة في فصل كمدخل للرواية، والنتائج المؤسفة التي خلفتها في مشاهد مروعة شهدها الكاتب نفسه، وفقد فيها حبيبته "فيامِّيتَّا"، التي أحبها حبًّا جمًّا، والتي كانت ملهمة له في الكتابة، لا فيما يتعلق بـ"الديكاميرون" فحسب، بل بمعظم كتاباته الأخرى، سواء الشعرية، أو العاطفية، أو الروائية، أو حتى القصصية والملحمية منها .توجهت المجموعة- التي تتكون من سبع نساء وثلاثة شبان- فرارًا بأنفسهم إلى قصر ريفي خارج المدينة، واقترحت إحداهن أن يتم انتخاب ملك من بينهم لتنظيم أمورهم، ليتولى أمرهم طيلة اليوم، وينتهي حُكمه بنهايته. وهكذا أصبح من حق كل من ينتسب للمجموعة أن يتناوب على سُدة الحكم. ولإبعاد شبح الخوف ولقتل الوقت، وحتى ينسوا الفظائع التي خلفها الوباء في المدينة، أمرت ملكة اليوم الأول أن يشكلوا حلقة، وأن يروي كل منهم قصة، فأصبح عدد القصص في اليوم الواحد عشر قصص، وتناوب أعضاء المجموعة العشرة على القص ليصل مجموع القصص التي كتبها "بوكّاتشو" مائة قصة، هي "الديكاميرون". باختصار، كانوا يحكون عشر قصص يوميًّا على مدار عشرة أيام، بإجمالي مائة قصة تضمنتها الرواية من بدايتها حتى نهايتها.
لم تكن الحكايات التي جاءت على لسان الرواة بدون غاية أو هدف، بل كانت تحمل بين طياتها بعضًا من الحِكم، وتمجيدًا لبعض القيم الغائبة في ذلك الزمان، وذمًّا لبعض الممارسات اللاأخلاقية التي كان يرتكبها الرهبان المتمسحين برداء الرهبنة. كما لم يسلم من كلماته ومفرداته اللاذعة الملوك والتجار الجشعون، وكذا الكثير من الشخصيات التي تعرضت لحوادث متنوعة قاسية، وكيف مكنتهم الظروف من الوصول إلى نهاية سعيدة: عشاق، لصوص، فنانون، سياسيون، وغيرهم كثيرون، جعل منهم "بوكّاتشو" أبطالًا في بعض القصص، وقساة وطغاة يستحقون العقاب في قصصٍ أخرى.
ويعتقد النقاد أن "بوكًاتشو" استوحى الفكرة من "ألف ليلة وليلة" التى كانت حديثة العهد بالأدب الأوروبي آنذاك، وأنه روى الحكايات بنفس الطريقة، مازجًا الخيال بالواقع بالشعر، تمامًا مثلها. وتعتبر "الديكاميرون" تصويرًا حيًّا لمجتمع القرن الرابع عشر في إيطاليا. ونجد فيها كثيرًا من الشخصيات التاريخية، مثل صلاح الدين و"ويليام الثاني" ملك صقلية[5]، كما استمد من "ألف ليلة وليلة" بعض الشخصيات الأسطورية، فضلًا عن طريقة السرد نفسها في بعض الحكايات.
كما أن بعض الكتاب والنقاد العرب يقولون عن "الديكاميرون" أنها "ألف ليلة وليلة الإيطالية". وأرى- في حقيقة الأمر- أنهم قد حالفهم الصواب بقدر كبير في هذه الرؤية، مع وجود بعض الاختلافات التي لمستها لاطلاعي على كلتيهما، وأرى أن الإختلاف الجوهري الملحوظ بينهما هو غياب الخيال؛ أي أن "الديكاميرون" قصص واقعية أو شبه واقعية، لا يوجد بها جن ولا عفاريت، ولا أي نوع من أنواع الخيالات المستحيلة التي نعرفها في ألف ليلة وليلة، باستثناء قصة وحيدة فقط هي التي ظهرت فيها الأشباح.
والقصص، كما ذكرت من قبل، هي قصص علاقات غرامية في أغلبها، وسنلاحظ أن الأبطال يحاولون الاحتشام علي قدر الإمكان، وعدم إيراد تفاصيل فاضحة، وهو أمر لا ينجح دائمًا، حيث نجد ألفاظًا تقترب من الإباحية بشكل كبير في بعض مواطن القصص. علاوةً على ذلك، سنلاحظ الصورة البشعة لرجل الدين المسيحي في القصص، حيث يبدو كأنه لا يتورع عن أي شيء، وقد كان هذا قبل "مارتن لوثر" وثورته على الكنيسة بمائة وخمسين عاما ًتقريبًا، حيث يبدو أن الأحوال كانت قد ساءت تمامًا. لقد كان رجال الكنيسة في أوروبا، من نساء ورجال، يقبلون سرًّا على كافة المعاصي التي ينهون عنها علنًا. كانوا يفعلون ما يغضب الله، ولا يكادون يقومون بأفعال خيرية إلا إذا كانت لهم مصلحة من ورائها. هكذا كان رجال الدين في أوروبا في تلك الحقبة، فهوت أوربا بأسرها إلى أسفل سافلين، ولم تقم لها قائمة إلا بعد التخلص من هذه المنظومة الفاسدة، التي تتظاهر بما ليس فيها، ولا يهمها سوى مصلحتها الخاصة. وهذا الكتاب يعمل على فضح المجتمع الكنسي، وكشف المنظومة الدينية السلوكية في أوروبا عامة، وإيطاليا خاصة، في حقبة العصور الوسطى.
ومما يدل على أهمية "الديكاميرون" وامتداد تأثيرها إلى يومنا هذا، أنه يتم عرضها في العصر الحديث على خشبة المسرح والسينما وشاشات التلفاز، فضلًا عن شغف المترجمين من كافة أنحاء العالم بترجمة هذه القصص إلى كافة اللغات؛ فنرى- على سبيل المثال- في الخبر الذي أوردته وكالة "أي جي آي" الإيطالية بتاريخ السادس من يونيو 2014 أن الأديب الشهير "ماريو فارجاس يوسا"[6]، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، قد أنهي كتابًا جديدًا يحمل عنوان "حكايات الطاعون"، وهو عبارة عن مجموعة قصصية مستوحاة في المقام الأول من قصص "الديكاميرون"، وقد تم عرضها كمسرحية في العاصمة الأسبانية مدريد، بإخراج المخرج القدير "خوان أوليه".
وقبل ذلك، وتحديدًا في سبعينيات القرن المنصرم، قام عملاق الإخراج السينمائي الإيطالي "بيير باولو بازوليني"[7] بإخراج "الديكاميرون" في فيلم سينمائي حقق نجاحًا هائلًا عام 1971، من خلال ثلاثية سينمائية شهيرة أطلق عليها اسم "ثلاثية الحياة". ولم يتصوّر أحد أنه سيختار للثلاثية بعض نصوص الآداب التي تعود إلى القرون الوسطى.
وعلى الرغم من أن "الديكاميرون" قد كُتبت في العصور الوسطي، وتحديدًا في القرن الرابع عشر الميلادي، إلا أنها كانت ولا تزال تحتفظ حتى يومنا هذا برونقها وبريقها الأدبي، وأثرها الأخلاقي. والدليل على ذلك أنه رغم مرور مئات السنين عليها، إلا أنها يتم تجديدها بين الفينة والفينة في شكل فيلم أو مسرحية – كما ذكرت فيما سبق – أو يقوم أحد المترجمين بترجمتها إلى لغته الأصلية، كما فعلنا ذلك الآن. وجدير بالذكر أن "الديكاميرون" تعد من أكثر الروايات التي تمت ترجمتها إلى لغات أجنبية متعددة على مدار التاريخ. حقًّا، فهي واحدة من أروع الكتابات وأكثرها قراءة ومطالعة من قبل الجمهور، سواء في إيطاليا أو خارجها.
أما عن لغة هذا الكتاب، فهي عذبة رقيقة، تتميز بالتناغم والتناسق الأشبه بالسجع في اللغة العربية، تلك اللغة التي لم يعد أحد من الكتاب الحاليين يستطيع صياغة مثلها من الناحية الجمالية والتعبيرية. كما أود أن أوضح في هذا المقام أن لغة هذا الكتاب بها صعوبات جمة، تتمثل في التعبيرات والكلمات القديمة غير المستخدمة حاليًّا، لكنها ليست مستحيلة الترجمة، وقد تمكنا – بفضل الله تعالى – من التغلب عليها بالمثابرة، والتفكير العميق، واستخدام القواميس، والاستفادة من ترجمة أ. صالح علماني لها، على الرغم من أنها كانت عن الأسبانية، لا الإيطالية، كما يعتقد البعض. وجدير بالذكر أن ترجمات الديكاميرون إلى العربية قد أخذت في الظهور بدءًا من النصف الأول من القرن المنصرم، لكن لم تكن ترجمة كاملة، وإنما في صورة عدد من القصص ضمن مجموعتين قصصيتين، بترجمة كامل كيلاني. وفي خمسينيات القرن الماضي، وضمن سلسلة "كتابي"، صدر الكتاب الثالث عشر من السلسلة بعنوان "الديكاميرون/ألف ليلة وليلة الإيطالية" بترجمة إسماعيل كامل، التي هي أميل إلى التعريب منها إلى الترجمة[*].كما أود التنويه إلى أنه قبل شروعنا في ترجمة هذا الكتاب، أخبروني أنه صعب الترجمة؛ لأن لغته قديمة وغير واضحة، إلا أنني أرى– بكل صدق وأمانة– أنه رغم صعوبة لغته في بعض الأحيان، إلا أنها جميلة وجذابة في أحيان كثيرة، فضلًا عن روعة الحكايات الواردة به.
مجموعة من المؤلفين - "مجموعة من المؤلفين"، هو ركن للكتب التي شارك في تأليفها أكتر من كاتب ومؤلف، وهو قسم مميز مليء بالكتب التي تعددت الجهود في إخراجها على أكمل الوجوه.
من فلسفة ومنطق الفكر والفلسفة - مكتبة الكتب والموسوعات العامة.