❞ كتاب أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام ❝  ⏤ محمد الناصر

❞ كتاب أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام ❝ ⏤ محمد الناصر

للعادات والتقاليد عند العرب، أثر عظيم في تنظيم حياتهم الاجتماعية، ولها سطوة لا يستطيع الفرد أن يتخلى عنها، وقد تقوم مقام الدين أو القانون. لقد جاء الإسلام وفي العرب بعض المزايا الحميدة، التي لا يمكن إنكارها، ولكن طابع الشر والظلم والفساد في التصورات والمعتقدات كان يطغى على ذلك الخير فيهم ويغمره، وكانوا بحاجة شديدة إلى نور الوحي، فبعث الله فيهم رسوله الكريم، وأمره أن يبشر وينذر، ويتحمل في سبيل ذلك ضروبا من المجادلة والتعب والأذى. ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن تلك المحاسن والمناقب هي من بقايا دين إبراهيم الخليل وولده إسماعيل -عليهما السلام-، بقيت بين العرب بشكل أو بآخر ، وهذا ما نجده في قوله - صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .

والواقع أن القيم الرفيعة والخلال الحميدة، انتشرت بين العرب في الجاهلية انتشارا واسعا، عجت بها أشعارهم، وسارت فيها أخبارهم، وكان من هذه الخلال ما اجتمعوا عليها أو كادوا، وكان منها ما تحلى بها الكثير منهم. ومن أهم ما اجتمعوا عليه ثلاث: الكرم والشجاعة والغيرة. وأما التي تحلى بها الكثير منهم فمنها: العفة والترفع عن الدنايا، ومنها الصدق والوفاء، ومنها حفظ السر والترفع عن جليس السوء.. ومنها الحلم والرزانة وغير ذلك. على أن القوم ساد بينهم بعض القيم الوضيعة والأخلاق الذميمة، فكما كان منهم الأوفياء الصادقون، كان منهم الغدارون والكذابون، وكما كان منهم الأوفياء وحفظة العهود؛ كان منهم الخونة واللصوص والبخلاء .

وسوف أستعرض - بإذنه تعالى- هذه القيم كما صورها الشعر الجاهلي موضحا نماذج - تتسع لها صفحات المجلة - من الأخلاق السامية والذميمة. ثم أستعرض مدى التغيير أو التعديل، أو التقويم الذي جاء به الإسلام مما ينسجم مع هديه ومعتقداته، وأختم حديثي عن موقفنا من هذه الأخلاق، ومدى تطبيق مجتمعاتنا المعاصرة لهذه القيم، بعد تجليتها في الجاهلية والإسلام.

1- الكرم: بواعث الكرم في العصر الجاهلي: لقد تميز العرب بإكرام الضيف، وتاهوا بهذه المكرمة، وافتخروا بها على الأمم، ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم، وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، حيث «كان العرب يعيشون في بادية شحيحة بالزاد وحياتهم ترحال وتجوال، وكل واحد منهم معرض لأن ينفذ زاده، فهو يقري ضيفه اليوم لأنه سيضطر إلى أن يضيف عند غيره في يوم، فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ ملاجئ تعتبر قوارب النجاة.. والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام، وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة سقط حق الضيافة إلا إذا جدد المضيف وزاد عليها» .

على أن العرب كانوا يكرمون الضيف لكلفهم بحسن الأحدوثة وطيب الثناء، ولأنهم ذوو أريحية تسعد نفوسهم بمساعدة المحتاج وإطعام الجائع.. وكان المال وسيلة عندهم لا غاية، وسيلة إلى كسب المحامد. كان الكرم وسيلة هامة من وسائل السيادة.. يقول حاتم الطائى: يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد ... وما كنت لولا ما تقولون سيدا والعربي ينكر البخل، لأنه مزر بأخلاق الرجال، وواضع من عوالي الصفات.. فالشاعر عمرو بن الأهتم يدعو زوجته لأن تدع لومه لبذله المال، فهو يشفق على الحسب الذي رفع بناءه، والكرام يتقون الذم ببذل القرى، ثم يتطرق إلى ضيف طرقه ليلا وكيف رحب به، ويصف لنا ذلك اللقاء: ذريني فإن البخل يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال شروق ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق ومستنبح بعد الهدوء دعوته ... وقد حل من نجم الشتاء خفوق فقتلت له: أهلا وسهلا ومرحبا ...

فهذا صبوح راهن وصديق وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق صورة رائعة من صور الكرم عند العربي، يستقبل ضيفه بالترحاب والطعام، وهو يتقي الذم والقالة؛ بالإطعام والقرى. لقد أصبح الكرم عند كثير من العرب طبعا وسجية، إذ ملك عليهم نفوسهم حتى أن حاتم الطائي يخاطب زوجته ويوصيها إذا صنعت له الطعام، أن تطلب له ضيفا ليشاركه فيه، فهو لا يريد أن يأكل وحده مخافة أن يتحدث الناس عنه بالبخل بعد موته. فهو يقول: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ...

أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد مظاهر الكرم عند العرب وصدق تطبيقهم لهذا الخلق : بالغ العرب في الحفاوة بالضيف والتعهد له، وتفننوا في إكرامه، وتلمس الأسباب التي تدخل على نفسه السرور، ومن ذلك بسط الوجه له ومضاحكته والترحيب به ساعة قدومه حتى يأنس وينزل وهو مطمئن. يقول عمرو بن الأهتم: وضاحكته من قبل عرفاني اسمه ... ليأنس، إني للكسير رفيق بل كانوا يقدمون له أشهى ما يملكون، مع إيناسهم له. قالوا: " اتمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة ".

ولن يتلهى العربي عن ضيفه حتى ولا بالزوجة والولد. يقول عروة بن الورد: فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع أحادثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع وكانوا خير رفيق لصاحب الطريق، لا يختصون أنفسهم دونه بمال أو بظهر أو بماء. وعرف بعض الأجواد بكرمهم، ومن أجواد العرب أزواد الركب وهم ثلاثة من قريش، وإنما قيل لهم أزواد الركب، لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة، وهم: مسافر بن أبي عمرو من بني عبد شمس، وأبو أمية المغيرة من بني مخزوم، وزمعة بن الأسود بن المطلب .

ومن صدق تطبيقهم لهذا الخلق تعميم الدعوة إلى الطعام ليحضره كل من له إليه حاجة، ومن شؤونهم التي تدعو إلى العجب والإكبار حبهم لكلابهم بسبب ما كان يجلبه نباحها من الأضياف وضلال الطريق من المسافرين. ومن مظاهر كرمهم العجيبة هداية الضيوف ليلا بالنار التي يوقدونها لإنضاج الطعام، أو للاستدفاء، وكانوا يوقدونها على المرتفعات لتكون أبين وأوضح. يقول حاتم الطائي لغلامه في ليلة باردة الريح: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا غلام ريح صر إن جلبت ضيفا فأنت حر الإسلام والكرم: جاء الإسلام فأقر هذا الخلق الكريم، وشجع على البذل والسخاء، وحث على إكرام الضيف، إلا أنه جعل إخلاص النية لرب العالمين يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيجعله عبادة متقبلة. قال تعالى: [إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا] [الإنسان: 9] .

محمد الناصر - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ أرتعش عندما تتحدث الأرواح ❝ ❞ اضطراب حكاية ميت لا اعرفه ❝ ❞ أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام ❝ ❞ غيبوبة: بعد 26 عاما تعود الحكاية ❝ ❞ مارج ❝ الناشرين : ❞ نوفا بلس للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الرسالة ❝ ❱
من فكر وثقافة - مكتبة الكتب والموسوعات العامة.

نبذة عن الكتاب:
أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام

1992م - 1446هـ
للعادات والتقاليد عند العرب، أثر عظيم في تنظيم حياتهم الاجتماعية، ولها سطوة لا يستطيع الفرد أن يتخلى عنها، وقد تقوم مقام الدين أو القانون. لقد جاء الإسلام وفي العرب بعض المزايا الحميدة، التي لا يمكن إنكارها، ولكن طابع الشر والظلم والفساد في التصورات والمعتقدات كان يطغى على ذلك الخير فيهم ويغمره، وكانوا بحاجة شديدة إلى نور الوحي، فبعث الله فيهم رسوله الكريم، وأمره أن يبشر وينذر، ويتحمل في سبيل ذلك ضروبا من المجادلة والتعب والأذى. ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن تلك المحاسن والمناقب هي من بقايا دين إبراهيم الخليل وولده إسماعيل -عليهما السلام-، بقيت بين العرب بشكل أو بآخر ، وهذا ما نجده في قوله - صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .

والواقع أن القيم الرفيعة والخلال الحميدة، انتشرت بين العرب في الجاهلية انتشارا واسعا، عجت بها أشعارهم، وسارت فيها أخبارهم، وكان من هذه الخلال ما اجتمعوا عليها أو كادوا، وكان منها ما تحلى بها الكثير منهم. ومن أهم ما اجتمعوا عليه ثلاث: الكرم والشجاعة والغيرة. وأما التي تحلى بها الكثير منهم فمنها: العفة والترفع عن الدنايا، ومنها الصدق والوفاء، ومنها حفظ السر والترفع عن جليس السوء.. ومنها الحلم والرزانة وغير ذلك. على أن القوم ساد بينهم بعض القيم الوضيعة والأخلاق الذميمة، فكما كان منهم الأوفياء الصادقون، كان منهم الغدارون والكذابون، وكما كان منهم الأوفياء وحفظة العهود؛ كان منهم الخونة واللصوص والبخلاء .

وسوف أستعرض - بإذنه تعالى- هذه القيم كما صورها الشعر الجاهلي موضحا نماذج - تتسع لها صفحات المجلة - من الأخلاق السامية والذميمة. ثم أستعرض مدى التغيير أو التعديل، أو التقويم الذي جاء به الإسلام مما ينسجم مع هديه ومعتقداته، وأختم حديثي عن موقفنا من هذه الأخلاق، ومدى تطبيق مجتمعاتنا المعاصرة لهذه القيم، بعد تجليتها في الجاهلية والإسلام.

1- الكرم: بواعث الكرم في العصر الجاهلي: لقد تميز العرب بإكرام الضيف، وتاهوا بهذه المكرمة، وافتخروا بها على الأمم، ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم، وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، حيث «كان العرب يعيشون في بادية شحيحة بالزاد وحياتهم ترحال وتجوال، وكل واحد منهم معرض لأن ينفذ زاده، فهو يقري ضيفه اليوم لأنه سيضطر إلى أن يضيف عند غيره في يوم، فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ ملاجئ تعتبر قوارب النجاة.. والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام، وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة سقط حق الضيافة إلا إذا جدد المضيف وزاد عليها» .

على أن العرب كانوا يكرمون الضيف لكلفهم بحسن الأحدوثة وطيب الثناء، ولأنهم ذوو أريحية تسعد نفوسهم بمساعدة المحتاج وإطعام الجائع.. وكان المال وسيلة عندهم لا غاية، وسيلة إلى كسب المحامد. كان الكرم وسيلة هامة من وسائل السيادة.. يقول حاتم الطائى: يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد ... وما كنت لولا ما تقولون سيدا والعربي ينكر البخل، لأنه مزر بأخلاق الرجال، وواضع من عوالي الصفات.. فالشاعر عمرو بن الأهتم يدعو زوجته لأن تدع لومه لبذله المال، فهو يشفق على الحسب الذي رفع بناءه، والكرام يتقون الذم ببذل القرى، ثم يتطرق إلى ضيف طرقه ليلا وكيف رحب به، ويصف لنا ذلك اللقاء: ذريني فإن البخل يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال شروق ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق ومستنبح بعد الهدوء دعوته ... وقد حل من نجم الشتاء خفوق فقتلت له: أهلا وسهلا ومرحبا ...

فهذا صبوح راهن وصديق وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق صورة رائعة من صور الكرم عند العربي، يستقبل ضيفه بالترحاب والطعام، وهو يتقي الذم والقالة؛ بالإطعام والقرى. لقد أصبح الكرم عند كثير من العرب طبعا وسجية، إذ ملك عليهم نفوسهم حتى أن حاتم الطائي يخاطب زوجته ويوصيها إذا صنعت له الطعام، أن تطلب له ضيفا ليشاركه فيه، فهو لا يريد أن يأكل وحده مخافة أن يتحدث الناس عنه بالبخل بعد موته. فهو يقول: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ...

أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد مظاهر الكرم عند العرب وصدق تطبيقهم لهذا الخلق : بالغ العرب في الحفاوة بالضيف والتعهد له، وتفننوا في إكرامه، وتلمس الأسباب التي تدخل على نفسه السرور، ومن ذلك بسط الوجه له ومضاحكته والترحيب به ساعة قدومه حتى يأنس وينزل وهو مطمئن. يقول عمرو بن الأهتم: وضاحكته من قبل عرفاني اسمه ... ليأنس، إني للكسير رفيق بل كانوا يقدمون له أشهى ما يملكون، مع إيناسهم له. قالوا: " اتمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة ".

ولن يتلهى العربي عن ضيفه حتى ولا بالزوجة والولد. يقول عروة بن الورد: فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع أحادثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع وكانوا خير رفيق لصاحب الطريق، لا يختصون أنفسهم دونه بمال أو بظهر أو بماء. وعرف بعض الأجواد بكرمهم، ومن أجواد العرب أزواد الركب وهم ثلاثة من قريش، وإنما قيل لهم أزواد الركب، لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة، وهم: مسافر بن أبي عمرو من بني عبد شمس، وأبو أمية المغيرة من بني مخزوم، وزمعة بن الأسود بن المطلب .

ومن صدق تطبيقهم لهذا الخلق تعميم الدعوة إلى الطعام ليحضره كل من له إليه حاجة، ومن شؤونهم التي تدعو إلى العجب والإكبار حبهم لكلابهم بسبب ما كان يجلبه نباحها من الأضياف وضلال الطريق من المسافرين. ومن مظاهر كرمهم العجيبة هداية الضيوف ليلا بالنار التي يوقدونها لإنضاج الطعام، أو للاستدفاء، وكانوا يوقدونها على المرتفعات لتكون أبين وأوضح. يقول حاتم الطائي لغلامه في ليلة باردة الريح: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا غلام ريح صر إن جلبت ضيفا فأنت حر الإسلام والكرم: جاء الإسلام فأقر هذا الخلق الكريم، وشجع على البذل والسخاء، وحث على إكرام الضيف، إلا أنه جعل إخلاص النية لرب العالمين يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيجعله عبادة متقبلة. قال تعالى: [إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا] [الإنسان: 9] .


.
المزيد..

تعليقات القرّاء:

للعادات والتقاليد عند العرب، أثر عظيم في تنظيم حياتهم الاجتماعية، ولها سطوة لا يستطيع الفرد أن يتخلى عنها، وقد تقوم مقام الدين أو القانون. لقد جاء الإسلام وفي العرب بعض المزايا الحميدة، التي لا يمكن إنكارها، ولكن طابع الشر والظلم والفساد في التصورات والمعتقدات كان يطغى على ذلك الخير فيهم ويغمره، وكانوا بحاجة شديدة إلى نور الوحي، فبعث الله فيهم رسوله الكريم، وأمره أن يبشر وينذر، ويتحمل في سبيل ذلك ضروبا من المجادلة والتعب والأذى. ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن تلك المحاسن والمناقب هي من بقايا دين إبراهيم الخليل وولده إسماعيل -عليهما السلام-، بقيت بين العرب بشكل أو بآخر ، وهذا ما نجده في قوله - صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»  .

 والواقع أن القيم الرفيعة والخلال الحميدة، انتشرت بين العرب في الجاهلية انتشارا واسعا، عجت بها أشعارهم، وسارت فيها أخبارهم، وكان من هذه الخلال ما اجتمعوا عليها أو كادوا، وكان منها ما تحلى بها الكثير منهم. ومن أهم ما اجتمعوا عليه ثلاث: الكرم والشجاعة والغيرة. وأما التي تحلى بها الكثير منهم فمنها: العفة والترفع عن الدنايا، ومنها الصدق والوفاء، ومنها حفظ السر والترفع عن جليس السوء.. ومنها الحلم والرزانة وغير ذلك. على أن القوم ساد بينهم بعض القيم الوضيعة والأخلاق الذميمة، فكما كان منهم الأوفياء الصادقون، كان منهم الغدارون والكذابون، وكما كان منهم الأوفياء وحفظة العهود؛ كان منهم الخونة واللصوص والبخلاء  .

 وسوف أستعرض - بإذنه تعالى- هذه القيم كما صورها الشعر الجاهلي موضحا نماذج - تتسع لها صفحات المجلة - من الأخلاق السامية والذميمة. ثم أستعرض مدى التغيير أو التعديل، أو التقويم الذي جاء به الإسلام مما ينسجم مع هديه ومعتقداته، وأختم حديثي عن موقفنا من هذه الأخلاق، ومدى تطبيق مجتمعاتنا المعاصرة لهذه القيم، بعد تجليتها في الجاهلية والإسلام.

 1- الكرم: بواعث الكرم في العصر الجاهلي: لقد تميز العرب بإكرام الضيف، وتاهوا بهذه المكرمة، وافتخروا بها على الأمم، ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم، وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، حيث «كان العرب يعيشون في بادية شحيحة بالزاد وحياتهم ترحال وتجوال، وكل واحد منهم معرض لأن ينفذ زاده، فهو يقري ضيفه اليوم لأنه سيضطر إلى أن يضيف عند غيره في يوم، فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ ملاجئ تعتبر قوارب النجاة.. والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام، وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة سقط حق الضيافة إلا إذا جدد المضيف وزاد عليها» . 

على أن العرب كانوا يكرمون الضيف لكلفهم بحسن الأحدوثة وطيب الثناء، ولأنهم ذوو أريحية تسعد نفوسهم بمساعدة المحتاج وإطعام الجائع.. وكان المال وسيلة عندهم لا غاية، وسيلة إلى كسب المحامد. كان الكرم وسيلة هامة من وسائل السيادة.. يقول حاتم الطائى: يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد ... وما كنت لولا ما تقولون سيدا  والعربي ينكر البخل، لأنه مزر بأخلاق الرجال، وواضع من عوالي الصفات.. فالشاعر عمرو بن الأهتم يدعو زوجته لأن تدع لومه لبذله المال، فهو يشفق على الحسب الذي رفع بناءه، والكرام يتقون الذم ببذل القرى، ثم يتطرق إلى ضيف طرقه ليلا وكيف رحب به، ويصف لنا ذلك اللقاء: ذريني فإن البخل يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال شروق ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق ومستنبح بعد الهدوء دعوته ... وقد حل من نجم الشتاء خفوق فقتلت له: أهلا وسهلا ومرحبا ... 

فهذا صبوح راهن وصديق وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق  صورة رائعة من صور الكرم عند العربي، يستقبل ضيفه بالترحاب والطعام، وهو يتقي الذم والقالة؛ بالإطعام والقرى. لقد أصبح الكرم عند كثير من العرب طبعا وسجية، إذ ملك عليهم نفوسهم حتى أن حاتم الطائي يخاطب زوجته ويوصيها إذا صنعت له الطعام، أن تطلب له ضيفا ليشاركه فيه، فهو لا يريد أن يأكل وحده مخافة أن يتحدث الناس عنه بالبخل بعد موته. فهو يقول: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ...

 أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد  مظاهر الكرم عند العرب وصدق تطبيقهم لهذا الخلق : بالغ العرب في الحفاوة بالضيف والتعهد له، وتفننوا في إكرامه، وتلمس الأسباب التي تدخل على نفسه السرور، ومن ذلك بسط الوجه له ومضاحكته والترحيب به ساعة قدومه حتى يأنس وينزل وهو مطمئن. يقول عمرو بن الأهتم: وضاحكته من قبل عرفاني اسمه ... ليأنس، إني للكسير رفيق  بل كانوا يقدمون له أشهى ما يملكون، مع إيناسهم له. قالوا: " اتمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة ". 

ولن يتلهى العربي عن ضيفه حتى ولا بالزوجة والولد. يقول عروة بن الورد: فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع أحادثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع وكانوا خير رفيق لصاحب الطريق، لا يختصون أنفسهم دونه بمال أو بظهر أو بماء. وعرف بعض الأجواد بكرمهم، ومن أجواد العرب أزواد الركب وهم ثلاثة من قريش، وإنما قيل لهم أزواد الركب، لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة، وهم: مسافر بن أبي عمرو من بني عبد شمس، وأبو أمية المغيرة من بني مخزوم، وزمعة بن الأسود بن المطلب . 

ومن صدق تطبيقهم لهذا الخلق تعميم الدعوة إلى الطعام ليحضره كل من له إليه حاجة، ومن شؤونهم التي تدعو إلى العجب والإكبار حبهم لكلابهم بسبب ما كان يجلبه نباحها من الأضياف وضلال الطريق من المسافرين. ومن مظاهر كرمهم العجيبة هداية الضيوف ليلا بالنار التي يوقدونها لإنضاج الطعام، أو للاستدفاء، وكانوا يوقدونها على المرتفعات لتكون أبين وأوضح. يقول حاتم الطائي لغلامه في ليلة باردة الريح: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا غلام ريح صر إن جلبت ضيفا فأنت حر  الإسلام والكرم: جاء الإسلام فأقر هذا الخلق الكريم، وشجع على البذل والسخاء، وحث على إكرام الضيف، إلا أنه جعل إخلاص النية لرب العالمين يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيجعله عبادة متقبلة. قال تعالى: [إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا] [الإنسان: 9] . 


 



سنة النشر : 1992م / 1412هـ .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
محمد الناصر - Mohammed Al Nasser

كتب محمد الناصر ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ أرتعش عندما تتحدث الأرواح ❝ ❞ اضطراب حكاية ميت لا اعرفه ❝ ❞ أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام ❝ ❞ غيبوبة: بعد 26 عاما تعود الحكاية ❝ ❞ مارج ❝ الناشرين : ❞ نوفا بلس للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الرسالة ❝ ❱. المزيد..

كتب محمد الناصر
الناشر:
دار الرسالة
كتب دار الرسالة ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ سنن أبي داود (ت: الأرناؤوط) ❝ ❞ أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام: دراسة مقارنة على ضوء الإسلام ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني أبو داود ❝ ❞ محمد الناصر ❝ ❱.المزيد.. كتب دار الرسالة