❞ رسالة عقائد الباطنية ... في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النّعمان (دكتوراه) ❝  ⏤ محمد الهادي الطاهري

❞ رسالة عقائد الباطنية ... في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النّعمان (دكتوراه) ❝ ⏤ محمد الهادي الطاهري

1. إنّ أغلب ما كُتب عن التيّار الباطنيّ في صيغته الإسماعيليّة قديما وحديثا يتّسم بصبغته الإيديولوجيّة ولا يحقّق في الكثير من الأحيان معرفة موضوعيّة بحقيقة هذا التيّار ومساهماته في إثراء الفكر الإسلاميّ القديم سواء بإعادة تشكيل مسائله الكبرى أو بدفع التفكير فيها نحو آفاق جديدة غير معهودة. إنّ هذا التيّار ليُعدّ بحقّ التيّار الفكريّ الأكثر جرأة في تاريخ الثقافة الإسلاميّة على طرق الكثير من الأسئلة التي تمسّ صميم الفكر الدينيّ، وإن كان قد عالجها بلغة يغلب على مفرداتها الطابع اللاهوتي فقد كانت تلك اللغة في مضامينها على صلة بالواقع السياسيّ.

2. تمثّل منظومة العقائد الباطنيّة بمختلف نواحيها، سواء في ذلك نظرية الإمامة ونظريّة التأويل والرؤية الفقهيّة العامّة، خطوة عملاقة في تاريخ الديانة الإسلاميّة حين قفزت بها من اللحظة الطبيعيّة إلى اللحظة التأليفيّة وانتهت بها ديانة أسرار. وممّا يؤكّد ذلك ويشهد له أنّ اللحظة التي اكتمل فيها التيّار الباطنيّ نظريّا ومنهجيّا وهي لحظة الدولة الفاطميّة هي نفسها اللحظة التي نحت فيها الثقافة الإسلاميّة نحو ما عرف بعصور الانحطاط وما تعنيه من ميل المفكّرين في مختلف مجالات النظر الإسلاميّ نحو استعادة الماضي بكلّ تفصيلاته الفقهيّة والكلاميّة والفلسفيّة. إنّ الديانة نتاج من منتجات المجتمع في طوره الفاصل بين العمران البدوي والعمران الحضريّ على نحو ما شرحه علماء تاريخ الأديان وعلماء الاجتماع الديني، وتتطوّر تدريجيّا لتصبح ديانة تأليفيّة فتستعير من الديانات المجاورة لها الكثير من الأفكار وتعمل على صهرها في صميم رؤيتها الخاصّة للإنسان والعالم. هذا من جهة نظام تطوّرها الفكريّ أمّا من جهة نظام تطوّرها التنظيميّ فهي تنشأ أوّل مرّة على حالة لا مكان فيها للتراتب فالنبيّ المؤسّس يستقطب جملة الوظائف الدينيّة وجميع أتباعه على درجة واحدة لا فضل لواحد منهم على الآخر، بل إنّ النبيّ نفسه لا يعلو كثيرا على أصحابه. وباختفاء هذا المؤسّس تتحوّل الديانة شيئا فشيئا نحو أن تكون تنظيما اجتماعيّا مبنيّا على التفاوت والتفاضل ويكون ذلك عادة نتيجة تقسيم ميراث النبيّ الرمزيّ وتوزيع وظائفه على عدد من أتباعه، في تلك اللحظة بالذات يلد التفاوت ويظهر الانقسام فإذا نحن أمام فيض من المعايير وإذا الأتباع يتنافسون على ذلك الميراث النبويّ ولكلّ طرف منهم ما يحتجّ به لإثبات فضله وحقّه في هذا المنصب أو ذاك. ولئن اختار المسلمون أوّل مرّة أن يخضع النظام الدينيّ لمنطق النظام الاجتماعيّ السائد لتكون الديانة رافدا من روافده فقد كان ذلك تعبيرا من المجتمع عن رغبته في الاحتفاظ بنظامه البدويّ وخوفه الطبيعيّ من انقسام حادّ يكون مقدّمة لظهور الدولة باعتبارها أعلى مؤسّسة اجتماعيّة تعمل على أن تكون مستعلية وعلى أن تحتكر القوّة والحقيقة فضلا عن الثروة. أمّا التيّار الباطنيّ في صيغته الإسماعيليّة فقد ورث عن التيّار الشيعيّ فكرة آل البيت بمختلف مضامينها الدينيّة والسياسيّة ونمّاها لبلورة اختيار ثقافيّ مناهض لذلك الاختيار الأوّل. إنّ نظريّة الإمامة كما عبّر عنها القاضي النعمان لتعكس إلى حدّ بعيد تطوّر الجماعة الدينيّة العربيّة من جماعة تقوم العلاقة بين أفرادها على مبدأ المساواة ومنطق الانفتاح إلى جماعة يحكمها منطق التفاوت والتراتب، وهو تطوّر يعبّر في ناحية من نواحيه عن تيّار فكريّ يدفع المجتمع نحو ولادة الدولة بكلّ ما تعنيه هذه الولادة من انقسام واحتكار للحقّ والقوّة. نقول ذلك لأنّ الأديان عند الكثير من علماء التاريخ والانتروبولوجيا هي الناقل الأبرز للمجتمع القديم من طور ما قبل الدولة إلى طور الدولة، وقد أسّست الدعوة الباطنيّة بفضل عقائدها وتنظيمها لنشأة هذه الدولة كما عمل مفكّروها على بلورة خطاب فقهيّ سياسيّ يشرح القوانين المتحكّمة في الجماعة الدينيّة وهي تسير شيئا فشيئا نحو بناء مؤسّستي الدعوة والدولة وهذا ما يظهر جليّا في مصنّفات النعمان وخاصّة منها رسالة الهمّة في آداب أتباع الأئمّة وبعض فصول دعائم الإسلام مثل كتاب الجهاد وما ضمّنه النعمان فيه من توضيحات فقهيّة تبيّن نظريّته في مؤسّسة الجهاد من خلال تحليله الدقيق لمختلف العلاقات بين العاملين في هذه المؤسّسة مثل الأمراء والكتّاب والجند ومن يرافقهم من معلّمين وتجّار.

3. إنّ نظريّة التأويل الباطنيّ كما عبّر عنها القاضي النعمان تعدّ في نظرنا مساهمة فعّالة في إثراء فنّ التأويل في الثقافة الإسلاميّة لما تضمّنته من توسيع ملحوظ لدائرة التأويل فشمل مختلف أصناف الخطاب الدينيّ وتعدّاه إلى الممارسة الدينيّة ذاتها. إنّ هذا التأويل بمضامينه النظريّة والعمليّة و


بأدواته اللغويّة والرياضيّة وبمنطلقاته المنهجيّة والعقائديّة ليُعتبر في تقديرنا العلامة الأبرز في تاريخ الفكر الإسلاميّ على انشغال المسلمين بتفكيك غوامض دينهم وردّها إلى منطقة المعقول، نقول ذلك رغم ما في ذلك التأويل من أفكار قد تبدو للكثير من الباحثين غير مقبولة ورغم ما فيه أيضا ممّا سمّاه البعض تأويلا تعسّفيّا.

كما ساعد هذا التأويل أصحابه على إعادة النظر في الظاهرة الدينيّة فاكتشفوا نظام تطوّرها ووقفوا على مختلف وظائفها الاجتماعيّة وأدركوا حقيقة عملها بقدر ما توقّفوا على أبرز سمات الخطاب الدينيّ وطاقاته التعبيريّة الهائلة باعتباره خطابا تمثيليّا يشير إلى المعاني من بعيد دون أن يظهرها.

4. إنّ القاضي النعمان لا يعدّ في نظرنا مؤرّخا أو متكلّما أو فقيها أو فيلسوفا فحسب بل هو فوق ذلك كلّه مؤدلج. ولا نعني بهذه الصفة أنّه داعية يروّج عقائده ويعمل على نشرها بين الناس بل نعني أنّه مفكّر يستثمر كلّ ما لديه من المعارف التاريخيّة والكلاميّة والفقهيّة والفلسفيّة لتأويل العالم وفق اختيار ثقافيّ مخصوص وخدمة لأغراض دينيّة وسياسيّة محدّدة. ثمّ إنّه في نظرنا من بين المفكّرين المسلمين الذين فتحوا حقول نظر جديدة لعلّ أبرزها أصول التنظيم السياسيّ وما رسالة الهمّة في آداب أتباع الأئمّة سوى مظهر من مظاهر الانتقال بما عرف بالآداب السلطانيّة من مرحلة التفكير في أصول الحكم وفنونه إلى مرحلة التفكير في أصول الخضوع والانقياد، ولئن كان هذا التفكير في وجه من وجوهه كشفا عن عوالم الانتماء السياسيّ وتحليلا لفنون الانتظام فهو في تقديرنا المدخل النظريّ لفهم الوجه الخفي من وجوه الاستبداد وهو الاغتراب الدينيّ والسياسيّ.

5. إنّ النقد الذي وجّهه القاضي النعمان إلى نظريّة أصول الفقه يعكس إلى حدّ بعيد بوادر وعي عميق بالأزمة التي انقاد إليها العقل الفقهيّ وهي أزمة منهجيّة تتلخّص في ذلك التعارض العنيف بين الإيمان بنصّ دينيّ يحيط علما بكلّ شيء من جهة والاعتراف بخلوّه من الكثير من الأحكام من جهة أخرى. ولئن قاد هذا التعارض الفقهاء إلى السقوط في الكثير من المتناقضات فقد أسّست العقائد الباطنيّة سبيلا للخلاص من هذه الأزمة، إنّ الاعتقاد في وجود الإمام المعصوم رغم ما فيه من تطرّف وبعد عن المعقول يمنح الجماعة الدينيّة قدرة فائقة على تجاوز ماضيها الغابر كما يمنحها الحقّ في معالجة مسائل حياتها اليوميّة بما تراه قيادتها الروحيّة. أمّا نظريّة أصول الفقه فهي تميل بالجماعة نفسها نحو الانصراف بمسائل حياتها إلى غابر الأزمنة حين رسمت لاستنباط الأحكام أصولا تعود بها إلى الماضين.

أخيرا، إنّ بحثا في عقائد الباطنيّة عند القاضي النعمان لا يقود صاحبه نحو التفكير في آثار تلك العقائد النظريّة والعمليّة وما كان لها من دور في توجيه المؤمنين بها نحو تصوّر خاصّ لنظام حياتهم ونمط تفكيرهم ومنزلتهم في الكون ومعنى وجودهم فيه، يبقى في تقديرنا بحثا لا يتعدّى الجهد فيه حدود الجمع والتعريف، ولم نكن ببحثنا هذا لنقف عند تلك الحدود فقد سبقنا إليها السابقون ونأمل أن نكون قد تجاوزنا ذلك نحو تحصيل وعي بما وراء العقائد الباطنيّة من صور لنمط حياة ونظام فكر كان للنعمان الفضل الأكبر في إرشادنا إلى مواطن حضورها.
محمد الهادي الطاهري - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ عقائد الباطنية ... في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النّعمان (دكتوراه) ❝ الناشرين : ❞ مؤسسة الانتشار العربي ❝ ❱
من بحوث ورسائل ماجستير ودكتوراه في التخصصات الإسلامية كتب الدراسات العليا - مكتبة الكتب العلمية.

نبذة عن الكتاب:
عقائد الباطنية ... في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النّعمان (دكتوراه)

2011م - 1445هـ
1. إنّ أغلب ما كُتب عن التيّار الباطنيّ في صيغته الإسماعيليّة قديما وحديثا يتّسم بصبغته الإيديولوجيّة ولا يحقّق في الكثير من الأحيان معرفة موضوعيّة بحقيقة هذا التيّار ومساهماته في إثراء الفكر الإسلاميّ القديم سواء بإعادة تشكيل مسائله الكبرى أو بدفع التفكير فيها نحو آفاق جديدة غير معهودة. إنّ هذا التيّار ليُعدّ بحقّ التيّار الفكريّ الأكثر جرأة في تاريخ الثقافة الإسلاميّة على طرق الكثير من الأسئلة التي تمسّ صميم الفكر الدينيّ، وإن كان قد عالجها بلغة يغلب على مفرداتها الطابع اللاهوتي فقد كانت تلك اللغة في مضامينها على صلة بالواقع السياسيّ.

2. تمثّل منظومة العقائد الباطنيّة بمختلف نواحيها، سواء في ذلك نظرية الإمامة ونظريّة التأويل والرؤية الفقهيّة العامّة، خطوة عملاقة في تاريخ الديانة الإسلاميّة حين قفزت بها من اللحظة الطبيعيّة إلى اللحظة التأليفيّة وانتهت بها ديانة أسرار. وممّا يؤكّد ذلك ويشهد له أنّ اللحظة التي اكتمل فيها التيّار الباطنيّ نظريّا ومنهجيّا وهي لحظة الدولة الفاطميّة هي نفسها اللحظة التي نحت فيها الثقافة الإسلاميّة نحو ما عرف بعصور الانحطاط وما تعنيه من ميل المفكّرين في مختلف مجالات النظر الإسلاميّ نحو استعادة الماضي بكلّ تفصيلاته الفقهيّة والكلاميّة والفلسفيّة. إنّ الديانة نتاج من منتجات المجتمع في طوره الفاصل بين العمران البدوي والعمران الحضريّ على نحو ما شرحه علماء تاريخ الأديان وعلماء الاجتماع الديني، وتتطوّر تدريجيّا لتصبح ديانة تأليفيّة فتستعير من الديانات المجاورة لها الكثير من الأفكار وتعمل على صهرها في صميم رؤيتها الخاصّة للإنسان والعالم. هذا من جهة نظام تطوّرها الفكريّ أمّا من جهة نظام تطوّرها التنظيميّ فهي تنشأ أوّل مرّة على حالة لا مكان فيها للتراتب فالنبيّ المؤسّس يستقطب جملة الوظائف الدينيّة وجميع أتباعه على درجة واحدة لا فضل لواحد منهم على الآخر، بل إنّ النبيّ نفسه لا يعلو كثيرا على أصحابه. وباختفاء هذا المؤسّس تتحوّل الديانة شيئا فشيئا نحو أن تكون تنظيما اجتماعيّا مبنيّا على التفاوت والتفاضل ويكون ذلك عادة نتيجة تقسيم ميراث النبيّ الرمزيّ وتوزيع وظائفه على عدد من أتباعه، في تلك اللحظة بالذات يلد التفاوت ويظهر الانقسام فإذا نحن أمام فيض من المعايير وإذا الأتباع يتنافسون على ذلك الميراث النبويّ ولكلّ طرف منهم ما يحتجّ به لإثبات فضله وحقّه في هذا المنصب أو ذاك. ولئن اختار المسلمون أوّل مرّة أن يخضع النظام الدينيّ لمنطق النظام الاجتماعيّ السائد لتكون الديانة رافدا من روافده فقد كان ذلك تعبيرا من المجتمع عن رغبته في الاحتفاظ بنظامه البدويّ وخوفه الطبيعيّ من انقسام حادّ يكون مقدّمة لظهور الدولة باعتبارها أعلى مؤسّسة اجتماعيّة تعمل على أن تكون مستعلية وعلى أن تحتكر القوّة والحقيقة فضلا عن الثروة. أمّا التيّار الباطنيّ في صيغته الإسماعيليّة فقد ورث عن التيّار الشيعيّ فكرة آل البيت بمختلف مضامينها الدينيّة والسياسيّة ونمّاها لبلورة اختيار ثقافيّ مناهض لذلك الاختيار الأوّل. إنّ نظريّة الإمامة كما عبّر عنها القاضي النعمان لتعكس إلى حدّ بعيد تطوّر الجماعة الدينيّة العربيّة من جماعة تقوم العلاقة بين أفرادها على مبدأ المساواة ومنطق الانفتاح إلى جماعة يحكمها منطق التفاوت والتراتب، وهو تطوّر يعبّر في ناحية من نواحيه عن تيّار فكريّ يدفع المجتمع نحو ولادة الدولة بكلّ ما تعنيه هذه الولادة من انقسام واحتكار للحقّ والقوّة. نقول ذلك لأنّ الأديان عند الكثير من علماء التاريخ والانتروبولوجيا هي الناقل الأبرز للمجتمع القديم من طور ما قبل الدولة إلى طور الدولة، وقد أسّست الدعوة الباطنيّة بفضل عقائدها وتنظيمها لنشأة هذه الدولة كما عمل مفكّروها على بلورة خطاب فقهيّ سياسيّ يشرح القوانين المتحكّمة في الجماعة الدينيّة وهي تسير شيئا فشيئا نحو بناء مؤسّستي الدعوة والدولة وهذا ما يظهر جليّا في مصنّفات النعمان وخاصّة منها رسالة الهمّة في آداب أتباع الأئمّة وبعض فصول دعائم الإسلام مثل كتاب الجهاد وما ضمّنه النعمان فيه من توضيحات فقهيّة تبيّن نظريّته في مؤسّسة الجهاد من خلال تحليله الدقيق لمختلف العلاقات بين العاملين في هذه المؤسّسة مثل الأمراء والكتّاب والجند ومن يرافقهم من معلّمين وتجّار.

3. إنّ نظريّة التأويل الباطنيّ كما عبّر عنها القاضي النعمان تعدّ في نظرنا مساهمة فعّالة في إثراء فنّ التأويل في الثقافة الإسلاميّة لما تضمّنته من توسيع ملحوظ لدائرة التأويل فشمل مختلف أصناف الخطاب الدينيّ وتعدّاه إلى الممارسة الدينيّة ذاتها. إنّ هذا التأويل بمضامينه النظريّة والعمليّة و


بأدواته اللغويّة والرياضيّة وبمنطلقاته المنهجيّة والعقائديّة ليُعتبر في تقديرنا العلامة الأبرز في تاريخ الفكر الإسلاميّ على انشغال المسلمين بتفكيك غوامض دينهم وردّها إلى منطقة المعقول، نقول ذلك رغم ما في ذلك التأويل من أفكار قد تبدو للكثير من الباحثين غير مقبولة ورغم ما فيه أيضا ممّا سمّاه البعض تأويلا تعسّفيّا.

كما ساعد هذا التأويل أصحابه على إعادة النظر في الظاهرة الدينيّة فاكتشفوا نظام تطوّرها ووقفوا على مختلف وظائفها الاجتماعيّة وأدركوا حقيقة عملها بقدر ما توقّفوا على أبرز سمات الخطاب الدينيّ وطاقاته التعبيريّة الهائلة باعتباره خطابا تمثيليّا يشير إلى المعاني من بعيد دون أن يظهرها.

4. إنّ القاضي النعمان لا يعدّ في نظرنا مؤرّخا أو متكلّما أو فقيها أو فيلسوفا فحسب بل هو فوق ذلك كلّه مؤدلج. ولا نعني بهذه الصفة أنّه داعية يروّج عقائده ويعمل على نشرها بين الناس بل نعني أنّه مفكّر يستثمر كلّ ما لديه من المعارف التاريخيّة والكلاميّة والفقهيّة والفلسفيّة لتأويل العالم وفق اختيار ثقافيّ مخصوص وخدمة لأغراض دينيّة وسياسيّة محدّدة. ثمّ إنّه في نظرنا من بين المفكّرين المسلمين الذين فتحوا حقول نظر جديدة لعلّ أبرزها أصول التنظيم السياسيّ وما رسالة الهمّة في آداب أتباع الأئمّة سوى مظهر من مظاهر الانتقال بما عرف بالآداب السلطانيّة من مرحلة التفكير في أصول الحكم وفنونه إلى مرحلة التفكير في أصول الخضوع والانقياد، ولئن كان هذا التفكير في وجه من وجوهه كشفا عن عوالم الانتماء السياسيّ وتحليلا لفنون الانتظام فهو في تقديرنا المدخل النظريّ لفهم الوجه الخفي من وجوه الاستبداد وهو الاغتراب الدينيّ والسياسيّ.

5. إنّ النقد الذي وجّهه القاضي النعمان إلى نظريّة أصول الفقه يعكس إلى حدّ بعيد بوادر وعي عميق بالأزمة التي انقاد إليها العقل الفقهيّ وهي أزمة منهجيّة تتلخّص في ذلك التعارض العنيف بين الإيمان بنصّ دينيّ يحيط علما بكلّ شيء من جهة والاعتراف بخلوّه من الكثير من الأحكام من جهة أخرى. ولئن قاد هذا التعارض الفقهاء إلى السقوط في الكثير من المتناقضات فقد أسّست العقائد الباطنيّة سبيلا للخلاص من هذه الأزمة، إنّ الاعتقاد في وجود الإمام المعصوم رغم ما فيه من تطرّف وبعد عن المعقول يمنح الجماعة الدينيّة قدرة فائقة على تجاوز ماضيها الغابر كما يمنحها الحقّ في معالجة مسائل حياتها اليوميّة بما تراه قيادتها الروحيّة. أمّا نظريّة أصول الفقه فهي تميل بالجماعة نفسها نحو الانصراف بمسائل حياتها إلى غابر الأزمنة حين رسمت لاستنباط الأحكام أصولا تعود بها إلى الماضين.

أخيرا، إنّ بحثا في عقائد الباطنيّة عند القاضي النعمان لا يقود صاحبه نحو التفكير في آثار تلك العقائد النظريّة والعمليّة وما كان لها من دور في توجيه المؤمنين بها نحو تصوّر خاصّ لنظام حياتهم ونمط تفكيرهم ومنزلتهم في الكون ومعنى وجودهم فيه، يبقى في تقديرنا بحثا لا يتعدّى الجهد فيه حدود الجمع والتعريف، ولم نكن ببحثنا هذا لنقف عند تلك الحدود فقد سبقنا إليها السابقون ونأمل أن نكون قد تجاوزنا ذلك نحو تحصيل وعي بما وراء العقائد الباطنيّة من صور لنمط حياة ونظام فكر كان للنعمان الفضل الأكبر في إرشادنا إلى مواطن حضورها. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

1. إنّ أغلب ما كُتب عن التيّار الباطنيّ في صيغته الإسماعيليّة قديما وحديثا يتّسم بصبغته الإيديولوجيّة ولا يحقّق في الكثير من الأحيان معرفة موضوعيّة بحقيقة هذا التيّار ومساهماته في إثراء الفكر الإسلاميّ القديم سواء بإعادة تشكيل مسائله الكبرى أو بدفع التفكير فيها نحو آفاق جديدة غير معهودة. إنّ هذا التيّار ليُعدّ بحقّ التيّار الفكريّ الأكثر جرأة في تاريخ الثقافة الإسلاميّة على طرق الكثير من الأسئلة التي تمسّ صميم الفكر الدينيّ، وإن كان قد عالجها بلغة يغلب على مفرداتها الطابع اللاهوتي فقد كانت تلك اللغة في مضامينها على صلة بالواقع السياسيّ.

2. تمثّل منظومة العقائد الباطنيّة بمختلف نواحيها، سواء في ذلك نظرية الإمامة ونظريّة التأويل والرؤية الفقهيّة العامّة، خطوة عملاقة في تاريخ الديانة الإسلاميّة حين قفزت بها من اللحظة الطبيعيّة إلى اللحظة التأليفيّة وانتهت بها ديانة أسرار. وممّا يؤكّد ذلك ويشهد له أنّ اللحظة التي اكتمل فيها التيّار الباطنيّ نظريّا ومنهجيّا وهي لحظة الدولة الفاطميّة هي نفسها اللحظة التي نحت فيها الثقافة الإسلاميّة نحو ما عرف بعصور الانحطاط وما تعنيه من ميل المفكّرين في مختلف مجالات النظر الإسلاميّ نحو استعادة الماضي بكلّ تفصيلاته الفقهيّة والكلاميّة والفلسفيّة. إنّ الديانة نتاج من منتجات المجتمع في طوره الفاصل بين العمران البدوي والعمران الحضريّ على نحو ما شرحه علماء تاريخ الأديان وعلماء الاجتماع الديني، وتتطوّر تدريجيّا لتصبح ديانة تأليفيّة فتستعير من الديانات المجاورة لها الكثير من الأفكار وتعمل على صهرها في صميم رؤيتها الخاصّة للإنسان والعالم. هذا من جهة نظام تطوّرها الفكريّ أمّا من جهة نظام تطوّرها التنظيميّ فهي تنشأ أوّل مرّة على حالة لا مكان فيها للتراتب فالنبيّ المؤسّس يستقطب جملة الوظائف الدينيّة وجميع أتباعه على درجة واحدة لا فضل لواحد منهم على الآخر، بل إنّ النبيّ نفسه لا يعلو كثيرا على أصحابه. وباختفاء هذا المؤسّس تتحوّل الديانة شيئا فشيئا نحو أن تكون تنظيما اجتماعيّا مبنيّا على التفاوت والتفاضل ويكون ذلك عادة نتيجة تقسيم ميراث النبيّ الرمزيّ وتوزيع وظائفه على عدد من أتباعه، في تلك اللحظة بالذات يلد التفاوت ويظهر الانقسام فإذا نحن أمام فيض من المعايير وإذا الأتباع يتنافسون على ذلك الميراث النبويّ ولكلّ طرف منهم ما يحتجّ به لإثبات فضله وحقّه في هذا المنصب أو ذاك. ولئن اختار المسلمون أوّل مرّة أن يخضع النظام الدينيّ لمنطق النظام الاجتماعيّ السائد لتكون الديانة رافدا من روافده فقد كان ذلك تعبيرا من المجتمع عن رغبته في الاحتفاظ بنظامه البدويّ وخوفه الطبيعيّ من انقسام حادّ يكون مقدّمة لظهور الدولة باعتبارها أعلى مؤسّسة اجتماعيّة تعمل على أن تكون مستعلية وعلى أن تحتكر القوّة والحقيقة فضلا عن الثروة. أمّا التيّار الباطنيّ في صيغته الإسماعيليّة فقد ورث عن التيّار الشيعيّ فكرة آل البيت بمختلف مضامينها الدينيّة والسياسيّة ونمّاها لبلورة اختيار ثقافيّ مناهض لذلك الاختيار الأوّل. إنّ نظريّة الإمامة كما عبّر عنها القاضي النعمان لتعكس إلى حدّ بعيد تطوّر الجماعة الدينيّة العربيّة من جماعة تقوم العلاقة بين أفرادها على مبدأ المساواة ومنطق الانفتاح إلى جماعة يحكمها منطق التفاوت والتراتب، وهو تطوّر يعبّر في ناحية من نواحيه عن تيّار فكريّ يدفع المجتمع نحو ولادة الدولة بكلّ ما تعنيه هذه الولادة من انقسام واحتكار للحقّ والقوّة. نقول ذلك لأنّ الأديان عند الكثير من علماء التاريخ والانتروبولوجيا هي الناقل الأبرز للمجتمع القديم من طور ما قبل الدولة إلى طور الدولة، وقد أسّست الدعوة الباطنيّة بفضل عقائدها وتنظيمها لنشأة هذه الدولة كما عمل مفكّروها على بلورة خطاب فقهيّ سياسيّ يشرح القوانين المتحكّمة في الجماعة الدينيّة وهي تسير شيئا فشيئا نحو بناء مؤسّستي الدعوة والدولة وهذا ما يظهر جليّا في مصنّفات النعمان وخاصّة منها رسالة الهمّة في آداب أتباع الأئمّة وبعض فصول دعائم الإسلام مثل كتاب الجهاد وما ضمّنه النعمان فيه من توضيحات فقهيّة تبيّن نظريّته في مؤسّسة الجهاد من خلال تحليله الدقيق لمختلف العلاقات بين العاملين في هذه المؤسّسة مثل الأمراء والكتّاب والجند ومن يرافقهم من معلّمين وتجّار.

3. إنّ نظريّة التأويل الباطنيّ كما عبّر عنها القاضي النعمان تعدّ في نظرنا مساهمة فعّالة في إثراء فنّ التأويل في الثقافة الإسلاميّة لما تضمّنته من توسيع ملحوظ لدائرة التأويل فشمل مختلف أصناف الخطاب الدينيّ وتعدّاه إلى الممارسة الدينيّة ذاتها. إنّ هذا التأويل بمضامينه النظريّة والعمليّة و1,5K12:38 PM

 

بأدواته اللغويّة والرياضيّة وبمنطلقاته المنهجيّة والعقائديّة ليُعتبر في تقديرنا العلامة الأبرز في تاريخ الفكر الإسلاميّ على انشغال المسلمين بتفكيك غوامض دينهم وردّها إلى منطقة المعقول، نقول ذلك رغم ما في ذلك التأويل من أفكار قد تبدو للكثير من الباحثين غير مقبولة ورغم ما فيه أيضا ممّا سمّاه البعض تأويلا تعسّفيّا( ). كما ساعد هذا التأويل أصحابه على إعادة النظر في الظاهرة الدينيّة فاكتشفوا نظام تطوّرها ووقفوا على مختلف وظائفها الاجتماعيّة وأدركوا حقيقة عملها بقدر ما توقّفوا على أبرز سمات الخطاب الدينيّ وطاقاته التعبيريّة الهائلة باعتباره خطابا تمثيليّا يشير إلى المعاني من بعيد دون أن يظهرها.

4. إنّ القاضي النعمان لا يعدّ في نظرنا مؤرّخا أو متكلّما أو فقيها أو فيلسوفا فحسب بل هو فوق ذلك كلّه مؤدلج. ولا نعني بهذه الصفة أنّه داعية يروّج عقائده ويعمل على نشرها بين الناس بل نعني أنّه مفكّر يستثمر كلّ ما لديه من المعارف التاريخيّة والكلاميّة والفقهيّة والفلسفيّة لتأويل العالم وفق اختيار ثقافيّ مخصوص وخدمة لأغراض دينيّة وسياسيّة محدّدة. ثمّ إنّه في نظرنا من بين المفكّرين المسلمين الذين فتحوا حقول نظر جديدة لعلّ أبرزها أصول التنظيم السياسيّ وما رسالة الهمّة في آداب أتباع الأئمّة سوى مظهر من مظاهر الانتقال بما عرف بالآداب السلطانيّة من مرحلة التفكير في أصول الحكم وفنونه إلى مرحلة التفكير في أصول الخضوع والانقياد، ولئن كان هذا التفكير في وجه من وجوهه كشفا عن عوالم الانتماء السياسيّ وتحليلا لفنون الانتظام فهو في تقديرنا المدخل النظريّ لفهم الوجه الخفي من وجوه الاستبداد وهو الاغتراب الدينيّ والسياسيّ.

5. إنّ النقد الذي وجّهه القاضي النعمان إلى نظريّة أصول الفقه يعكس إلى حدّ بعيد بوادر وعي عميق بالأزمة التي انقاد إليها العقل الفقهيّ وهي أزمة منهجيّة تتلخّص في ذلك التعارض العنيف بين الإيمان بنصّ دينيّ يحيط علما بكلّ شيء من جهة والاعتراف بخلوّه من الكثير من الأحكام من جهة أخرى. ولئن قاد هذا التعارض الفقهاء إلى السقوط في الكثير من المتناقضات فقد أسّست العقائد الباطنيّة سبيلا للخلاص من هذه الأزمة، إنّ الاعتقاد في وجود الإمام المعصوم رغم ما فيه من تطرّف وبعد عن المعقول يمنح الجماعة الدينيّة قدرة فائقة على تجاوز ماضيها الغابر كما يمنحها الحقّ في معالجة مسائل حياتها اليوميّة بما تراه قيادتها الروحيّة. أمّا نظريّة أصول الفقه فهي تميل بالجماعة نفسها نحو الانصراف بمسائل حياتها إلى غابر الأزمنة حين رسمت لاستنباط الأحكام أصولا تعود بها إلى الماضين.

أخيرا، إنّ بحثا في عقائد الباطنيّة عند القاضي النعمان لا يقود صاحبه نحو التفكير في آثار تلك العقائد النظريّة والعمليّة وما كان لها من دور في توجيه المؤمنين بها نحو تصوّر خاصّ لنظام حياتهم ونمط تفكيرهم ومنزلتهم في الكون ومعنى وجودهم فيه، يبقى في تقديرنا بحثا لا يتعدّى الجهد فيه حدود الجمع والتعريف، ولم نكن ببحثنا هذا لنقف عند تلك الحدود فقد سبقنا إليها السابقون ونأمل أن نكون قد تجاوزنا ذلك نحو تحصيل وعي بما وراء العقائد الباطنيّة من صور لنمط حياة ونظام فكر كان للنعمان الفضل الأكبر في إرشادنا إلى مواطن حضورها.



سنة النشر : 2011م / 1432هـ .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة عقائد الباطنية ... في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النّعمان (دكتوراه)

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل عقائد الباطنية ... في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النّعمان (دكتوراه)
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
محمد الهادي الطاهري - Muhammad Al Hadi Al Tahri

كتب محمد الهادي الطاهري ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ عقائد الباطنية ... في الإمامة والفقه والتأويل عند القاضي النّعمان (دكتوراه) ❝ الناشرين : ❞ مؤسسة الانتشار العربي ❝ ❱. المزيد..

كتب محمد الهادي الطاهري
الناشر:
مؤسسة الانتشار العربي
كتب مؤسسة الانتشار العربي ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ نصف الرجل إمرأة ❝ ❞ الحديث عن المرأة والديانات ❝ ❞ طرق مغطاة بالثلج ❝ ❞ الدين فى شبه الجزيرة العربية ❝ ❞ الحرب والقرار ❝ ❞ موسوعة الوراقة والوارقين في الحضارة العربية الإسلامية (الجزء الاول-الثاني) ❝ ❞ الحياة الجديدة ❝ ❞ الرسول الطبيب ❝ ❞ الألعاب الشعبية البلوشية ❝ ❞ نقد حياة محمد ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ محمد الأمين الشنقيطي ❝ ❞ أورهان باموق ❝ ❞ الصادق النيهوم ❝ ❞ أبكار السقاف ❝ ❞ خير الله سعيد ❝ ❞ زانغ كزيليانغ ❝ ❞ حيدر حب الله ❝ ❞ حسام الراوى ❝ ❞ يحيى محمد ❝ ❞ طاهر الزهراني ❝ ❞ د. عبدالله إبراهيم ❝ ❞ شاهين بن محمد بن على البلوشي ❝ ❞ دوغلاس فايث ❝ ❞ عبد الهادي عبد الرحمن ❝ ❞ محمد مجتهد شبستري ❝ ❞ عبد الله القصيبي ❝ ❞ سامر رضوان أبو رمان ❝ ❞ بلال زعيتر ❝ ❞ عالي القرش ❝ ❞ سامر أبو هواش ❝ ❞ محمد الهادي الطاهري ❝ ❞ محمد علي المحمود ❝ ❞ هند النزاري ❝ ❱.المزيد.. كتب مؤسسة الانتشار العربي