❞ كتاب قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا)  ❝  ⏤ أنس الطريقي

❞ كتاب قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا) ❝ ⏤ أنس الطريقي

تجري قراءتي لهذا الكتاب[1] الدارس لفلسفة شارل تايلور في ضوء الطلبات والأسئلة التي أطرحها بوصفي باحثا في الحضارة الإسلاميّة في السياق الحديث وما بعد الحديث. ويعني هذا أنّ هذه القراءة تتشكّل في أفق إشكاليّات ومنهج هذه الشعبة البحثّة.

وإذا اكتفينا في شأن المنهج المعتمد في هذه الشعبة بالقول إنّه المنهج التناظميّ أو البينمناهجيّ (interdisciplinaire)، فإنّ الإشكاليّة الكبرى التي تهمّ من هذا الجانب هي خلاصة الإشكاليّات المسبّبة لعطالة الحضارة الإسلاميّة، وامتناعها عن الانخراط في هذا النسق العام من التحوّل الحضاري الذي افتتح مع الحداثة، أو كان عنوانها وراء تشكّلها الغربيّ المخصوص. إنّها تعميما إشكاليّة غياب الإنسان المبدع المنتج للحضارة.

ومن هذا الجانب يبدو مطلب الأنسنة والإنسيّة باعتبارها نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم المعاصر أبرز أسئلتنا الرّاهنة. لقد مثّل هذا المطلب في الفكر العربيّ المعاصر العنوان الأخير لأسئلته المتعلّقة بكيفيّة إدراج العقل الإسلاميّ مجدّدا في عمليّة التغيير الكونيّة.

تعيّنت الإجابة على هذا المطلب في مرحلة أولى لهذا الفكر مع جيله الإصلاحيّ في العثور على كيفيّة تغيير مضامين المعرفة أو تطعيم المعرفة القديمة بمبتكرات المعرفة الغربيّة الجديدة الوافدة مع الحداثة. ثمّ تشكّلت في مرحلة ثانيّة في صورة نوع من الاستدراك والعودة إلى ما كان يتعيّن البداية به، وهو نقد أداة هذه المعرفة، عبر تفكيكها، لبيان معوّقاتها. واتّجه الاهتمام مع جيل ثان للفكر العربيّ إلى أمرين: فمن ناحية أولى كان الانشغال بتبيّن آليّات تفكير هذا العقل المتحكّمة فيه، لتحريرها منها. ومن ناحية ثانية وقع الأمر في شكل سعي إلى التأصيل أريدت من خلاله استعادة الصلة بالأعماق الأولى لهذا العقل المردومة تحت الإيديولوجيّات التاريخيّة الظرفيّة، وذلك لاستعادة الحقّ في التأويل الذاتيّ والأدلجة. وتجسّد هذا السّعي مشاريع نقد العقل العربيّ التي افتتحها محمّد عابد الجابري، وصادق جلال العظم، ورضوان السيّد، وعبد اللّه العروي، ومحمّد أركون. واستعيرت هنا الرؤية الغربيّة لفلاسفة ما بعد الحداثة التي تقوم على فهم الذات من خلال تراثها، كما استعيرت المناهج، وعلى رأسها منهج التفكيك، والمنهج الحفري الجينيالوجي.

ولم تثمر هذه المشاريع توجيهها نحو مفهوم الهويّة العميقة إلاّ في قلّة من المشاريع التي طوّرت هذا المشروع النّقديّ للعقل نحو مطلب الأنسنة في الفكر العربيّ المعاصر. وتجسّد هذا العمل في البحث عن جذور الإنسان و محدّداته في التراث الإسلاميّ في كتابات محمّد أركون خاصّة. هذا التنبّه يبدو موازيا لأبحاث الحبّابيّ حول الشخص والشخصانيّة، وناصيف نصّار، وهي الأبحاث التي ستتطوّر في مجال الفلسفة خاصّة في بعض كتابات فتحي المسكينيّ التي يمكن أن نضعها تحت العنوان الهيدغيري: كيف نكون أنفسنا؟

من هذا المنظور الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، تحدّد في ضوئها طلباته النظريّة والعمليّة (السياسيّة، والاجتماعيّة، والأخلاقيّة..) نقرأ هذا الكتاب الدراس لهذه النمذجة التي يقترحها تايلور لمفهوم الهويّة الإنسانيّة مطبّقة على الإنسان الغربيّ بمفهومه الواسع بين الفضاءين القارّي والأنجلوسكسونيّ.

ستحاول هذه القراءة أن تبيّن ما تقدّمه فلسفة تايلور حول الهويّة للباحث في الحضارة العربيّة الإسلاميّة من المنظور الرّاهن، الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، من جهة أهدافها، ورؤيتها، ومضمونها، ومنهجها.

وتجري هذه القراءة في مرحلتين، تتمثّل أولاها في عرض موجز لمحتوى الكتاب، يليه تصنيف لقيمة هذا المحتوى بالنّسبة إلى الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، وذلك من جهة أهداف هذه الفلسفة حول الهويّة، ورؤيتها، ومضمونها، ومنهجها.

1- عرض محتوى الكتاب

يقع كتاب مصطفى بن تمسّك في أربعة أبواب، هي الأبواب التالية:

من هويّة الوجود إلى هويّة الأنا
مصادر هويّة الأنا الحديثة
سياسات الهويّة في الفضاء الأنغلوسكسونيّ
شروط إمكان الهويّات البديلة: تلازم الإيتيقيّ والسياسيّ
الباب الأوّل هو عبارة على عرض لرهانات المشروع التايلوري. وهي عموما تتمثّل في اقتراح نمذجة لهويّة الإنسان، تعارض نمذجاته الحديثة الوضعيّة، وتجسر الفجوة القائمة بين تحديده الليبرالي والجماعتيّ. ويترافق تفسير هذا الرّهان بتوضيح لأدواته المنهجيّة. فمن هذا الجانب يكشف بن تمسّك كيف استثمر شارل تايلور التراث الفلسفيّ ليقدّم منهجا مؤلّفا بين الأنتروبولوجيا، والفينومينولوجيا، والمقاربة اللّسانيّة، ليعتمد على الأنتروبولوجيا التأويليّة التي تتفادى اختزاليّة الأنتروبولوجيا للإنسان، وتظهر فيه جميع أبعاده الرمزيّة والباطنيّة، والحاصلة من انغراسه في العالم، وفي السياق نفسه اعتمد على المقاربة التعبيريّة لتفادي نقائص المقاربة اللّسانيّة في اختزاليّتها الوضعيّة أيضا للإنسان.

بهاتين المقاربتين في تضافرهما يبيّن شارل تايلور الأبعاد المنسيّة للهويّة في تأسيسها الحديث، ويعرّفها بمقولات التجسّد، والقصديّة، والانخراط.

أمّا في الباب الثاني فيعود الباحث إلى البحث الذي أنجزه شارل تايلور عن المنابع الثاوية في الهويّة الحديثة، ليبرز الاختلاط المؤسّس لها بين المطلق والفرديّ، وخطأ الاعتقاد في انفصال هاته الهويّة عن كلّ المطلقات. ويفعل ذلك عبر تتبّع لحظاتها التكوينيّة في تاريخها الغربيّ، تحت عناوين المسارات الارتقائيّة للهويّة الحديثة، ومعماريّة الهويّة الحديثة. بهذه العناوين يتحدّث عن الجذور الدينيّة للهويّة الحديثة وارتقائها عبر تبطين مفهوم الألوهيّة الذي صيذر التديّن تطابقا مع الذات لا مع الخارج الوجود أو الطبيعة، وحوّل إحداثيذات الإيمان من الكوسموس إلى الذات. أمّا مراحل هذه الصيرورة التكوينيّة فيحدّدها في التأليهيّة الأولى، فالثانية، فالمنعطف الوجدانيّ’ فالثورة التعبيريّة، فالتحالف بين العقل والإيمان الذي تحوّلت معه الحقيقة بالتدرّج من المتعالي إلى المفارق إلى الذات بوصفها المتعالي الجديد.

أمّا الباب الثالث المعنون سياسات الهويّة في الفضاء الأنغلوسكسونيّ، فهو باب تأطيريّ يشرح الإطار التاريخيّ الذي ظهرت فيه الأطروحة التايلوريّة في الهويّة، و هو الإطار الأنغلوسكسونيّ الذي انشغل منذ السبعينات بقضايا التعدّد، و انخرط في تطبيقات سياسيّة تحلّ إشكالات هذه القضايا فيما يعرف بسياسات الهويّة التي تمحورت حول البحث عن السبل السياسيّة لإدراج الاستحقاقات السياسيّة و الماديّة للأعراق و الثقافات الهامشيّة و المظلومة في النسيج المؤسّساتيّ للدولة في أمريكا، كما انخرطت في المستوى الفكري والنّظريّ في جدل بين الفريقين الجماعتيّ و اللّيبراليّ حول طريقة تمثّل الفرد في المجتمعات اللّيبراليّة. وهذا الجدل نتج في الواقع حول الأطروحة التي تصدّت لتقديم الحلول النّظريّة لهذا التمثّل، وهي أطروحة جون رولس في العدالة. وفي هذا الإطار ظهرت أطروحة شارل تايلور بوصفها أطروحة وسطى بين اللّيبراليّين والجماعتيّين.

ويتمثّل الباب الرّابع كما يتحدّد من عنوانه في استكمال العرض التايلوري لشروط إمكان هذه الهويّة التوفيقيّة التي يقترحها شارل تايلور.

2- تقويم الأطروحة التايلوريّة من منظور البحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم

تحت هذا العنوان تثمّن هذه القراءة الأطروحة التايلوريّة من المنظور الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم. ومن هذا الجانب تمن قيمة هذه الأطروحة من جهة أهدافها، والرؤية المتحكّمة فيها، ومن جهة المنهج الذي تمارسه في هذه الصورنة للإنسان، ومن جهة مضمون هذه الصورنة.

فمن جهة الأهداف فإنّ ما يهمّ هذه القراءة في هذه الأطروحة هو هدفها الحضاري العامّ، الذي يتّصل بإشكاليّة تعدّ بؤرة كلّ صراع ثقافي أو عرقي أو دينيّ أو قومي محدّد لتجربة الإنسان في الوجود. وأهميّة هذه الإشكاليّة الحضاريّة هي التي جعلتها في قلب السجالات النظريّة والعمليّة المتعلّقة بوضع الإنسان الفرديّ والجماعيّ. إنّ مشكلة الهويّة تمثّل من هذا الجانب كبرى الإشكاليّات المستعادة والمطروحة باستمرار منذ لحظة الانقلاب الحداثي الذي حوّل الإنسان إلى المنطلق الأوّل للتأسيس.

وبهذه الصورة فإنّ الأطروحة التايلوريّة تتموضع في قلب الهدف الحضاريّ الرّاهن، من جهة الأفق الذي تطمح إليه، فبينما تعدّ الهويّة من عوامل إحياء القبليّة والأصوليّات العرقيّة، وأنواع المركزيّة -وهي اتجاهات رافضة للتعدّديّة الثقافيّة والحضاريّة ولثقافة الاعتراف بالآخر، حين تعرّف الهويّة تعريفا ثابتا، استنادا إلى العامل القومي أو اللّغوي أو العرقيّ- فإنّ هدف تايلور البعيد هو تحويل الهويّة إلى أساس لتعايش الأضداد: الواحد والكثرة، المطلق والنسبيّ، الثبات والتغيّر. وذلك انطلاقا من بنية الهويّة نفسها.

فما يريده تايلور هو سحب هذه الأداة من الخطابات المحافظة التي تمثّلها الخطابات الأصوليّة الإسلاميّة مثلا، ولكن أيضا الحداثيّة التي تقطع الإنسان عن كلّ ارتباطاته النسقيّة المؤسّسة لوجوده وتعرّفه استنادا إلى العقل الوضعيّ الأداتي الذي يتشظّى بموجبه الإنسان ويعزل عن مكوّناته العاملة فيه.

إنّ هذا الهدف هو واحد من أهدافنا الحضاريّة من جهة مفهوم الهويّة الذي يتعيّن علينا فيه التصدّي لخطاب الهويّة المهيمن عندنا، وهو خطاب قائم من ناحية على هذا النزوع إلى تكريس ثقافة أحاديّة لا تؤمن بالاختلاف وترفض قيم الاعتراف والتعدّد الثقافيّ. ولكن من ناحية أخرى على هذا النزوع المواجه إلى تحويل كلّ هويّة إلى مقياس لذاتها. وهو ما يبدّد كلّ الحقائق الجامعة، ويمنع قيام نماذج سلوكيّة وأخلاقيّة تحظى بالاحترام، وهذا يؤدّي إلى “تذرّر” المجتمع وضياع البوصلة عنه.
أنس الطريقي - باحث تونسي حاصل على درجة الدكتوراه وعلى شهادة الماجستير في الآداب واللّغة العربيّة، وهو أستاذ مساعد للتعليم العالي اختصاص حضارة حديثة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في القيروان- تونس. وينتمي إلى وحدة بحث "الأديان والحضارات" بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، تونس. مهتمّ بقضايا الدين والسياسة، وقضايا تجديد الفكر الديني، والدراسات الإسلاميّة. يشرف أنس الطريقي على التحكيم العلمي لبحوث قسم الدين والسياسة في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا) ❝ الناشرين : ❞ دار فواصل للنشر والتوزيع ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

نبذة عن الكتاب:
قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا)

2022م - 1445هـ
تجري قراءتي لهذا الكتاب[1] الدارس لفلسفة شارل تايلور في ضوء الطلبات والأسئلة التي أطرحها بوصفي باحثا في الحضارة الإسلاميّة في السياق الحديث وما بعد الحديث. ويعني هذا أنّ هذه القراءة تتشكّل في أفق إشكاليّات ومنهج هذه الشعبة البحثّة.

وإذا اكتفينا في شأن المنهج المعتمد في هذه الشعبة بالقول إنّه المنهج التناظميّ أو البينمناهجيّ (interdisciplinaire)، فإنّ الإشكاليّة الكبرى التي تهمّ من هذا الجانب هي خلاصة الإشكاليّات المسبّبة لعطالة الحضارة الإسلاميّة، وامتناعها عن الانخراط في هذا النسق العام من التحوّل الحضاري الذي افتتح مع الحداثة، أو كان عنوانها وراء تشكّلها الغربيّ المخصوص. إنّها تعميما إشكاليّة غياب الإنسان المبدع المنتج للحضارة.

ومن هذا الجانب يبدو مطلب الأنسنة والإنسيّة باعتبارها نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم المعاصر أبرز أسئلتنا الرّاهنة. لقد مثّل هذا المطلب في الفكر العربيّ المعاصر العنوان الأخير لأسئلته المتعلّقة بكيفيّة إدراج العقل الإسلاميّ مجدّدا في عمليّة التغيير الكونيّة.

تعيّنت الإجابة على هذا المطلب في مرحلة أولى لهذا الفكر مع جيله الإصلاحيّ في العثور على كيفيّة تغيير مضامين المعرفة أو تطعيم المعرفة القديمة بمبتكرات المعرفة الغربيّة الجديدة الوافدة مع الحداثة. ثمّ تشكّلت في مرحلة ثانيّة في صورة نوع من الاستدراك والعودة إلى ما كان يتعيّن البداية به، وهو نقد أداة هذه المعرفة، عبر تفكيكها، لبيان معوّقاتها. واتّجه الاهتمام مع جيل ثان للفكر العربيّ إلى أمرين: فمن ناحية أولى كان الانشغال بتبيّن آليّات تفكير هذا العقل المتحكّمة فيه، لتحريرها منها. ومن ناحية ثانية وقع الأمر في شكل سعي إلى التأصيل أريدت من خلاله استعادة الصلة بالأعماق الأولى لهذا العقل المردومة تحت الإيديولوجيّات التاريخيّة الظرفيّة، وذلك لاستعادة الحقّ في التأويل الذاتيّ والأدلجة. وتجسّد هذا السّعي مشاريع نقد العقل العربيّ التي افتتحها محمّد عابد الجابري، وصادق جلال العظم، ورضوان السيّد، وعبد اللّه العروي، ومحمّد أركون. واستعيرت هنا الرؤية الغربيّة لفلاسفة ما بعد الحداثة التي تقوم على فهم الذات من خلال تراثها، كما استعيرت المناهج، وعلى رأسها منهج التفكيك، والمنهج الحفري الجينيالوجي.

ولم تثمر هذه المشاريع توجيهها نحو مفهوم الهويّة العميقة إلاّ في قلّة من المشاريع التي طوّرت هذا المشروع النّقديّ للعقل نحو مطلب الأنسنة في الفكر العربيّ المعاصر. وتجسّد هذا العمل في البحث عن جذور الإنسان و محدّداته في التراث الإسلاميّ في كتابات محمّد أركون خاصّة. هذا التنبّه يبدو موازيا لأبحاث الحبّابيّ حول الشخص والشخصانيّة، وناصيف نصّار، وهي الأبحاث التي ستتطوّر في مجال الفلسفة خاصّة في بعض كتابات فتحي المسكينيّ التي يمكن أن نضعها تحت العنوان الهيدغيري: كيف نكون أنفسنا؟

من هذا المنظور الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، تحدّد في ضوئها طلباته النظريّة والعمليّة (السياسيّة، والاجتماعيّة، والأخلاقيّة..) نقرأ هذا الكتاب الدراس لهذه النمذجة التي يقترحها تايلور لمفهوم الهويّة الإنسانيّة مطبّقة على الإنسان الغربيّ بمفهومه الواسع بين الفضاءين القارّي والأنجلوسكسونيّ.

ستحاول هذه القراءة أن تبيّن ما تقدّمه فلسفة تايلور حول الهويّة للباحث في الحضارة العربيّة الإسلاميّة من المنظور الرّاهن، الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، من جهة أهدافها، ورؤيتها، ومضمونها، ومنهجها.

وتجري هذه القراءة في مرحلتين، تتمثّل أولاها في عرض موجز لمحتوى الكتاب، يليه تصنيف لقيمة هذا المحتوى بالنّسبة إلى الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، وذلك من جهة أهداف هذه الفلسفة حول الهويّة، ورؤيتها، ومضمونها، ومنهجها.

1- عرض محتوى الكتاب

يقع كتاب مصطفى بن تمسّك في أربعة أبواب، هي الأبواب التالية:

من هويّة الوجود إلى هويّة الأنا
مصادر هويّة الأنا الحديثة
سياسات الهويّة في الفضاء الأنغلوسكسونيّ
شروط إمكان الهويّات البديلة: تلازم الإيتيقيّ والسياسيّ
الباب الأوّل هو عبارة على عرض لرهانات المشروع التايلوري. وهي عموما تتمثّل في اقتراح نمذجة لهويّة الإنسان، تعارض نمذجاته الحديثة الوضعيّة، وتجسر الفجوة القائمة بين تحديده الليبرالي والجماعتيّ. ويترافق تفسير هذا الرّهان بتوضيح لأدواته المنهجيّة. فمن هذا الجانب يكشف بن تمسّك كيف استثمر شارل تايلور التراث الفلسفيّ ليقدّم منهجا مؤلّفا بين الأنتروبولوجيا، والفينومينولوجيا، والمقاربة اللّسانيّة، ليعتمد على الأنتروبولوجيا التأويليّة التي تتفادى اختزاليّة الأنتروبولوجيا للإنسان، وتظهر فيه جميع أبعاده الرمزيّة والباطنيّة، والحاصلة من انغراسه في العالم، وفي السياق نفسه اعتمد على المقاربة التعبيريّة لتفادي نقائص المقاربة اللّسانيّة في اختزاليّتها الوضعيّة أيضا للإنسان.

بهاتين المقاربتين في تضافرهما يبيّن شارل تايلور الأبعاد المنسيّة للهويّة في تأسيسها الحديث، ويعرّفها بمقولات التجسّد، والقصديّة، والانخراط.

أمّا في الباب الثاني فيعود الباحث إلى البحث الذي أنجزه شارل تايلور عن المنابع الثاوية في الهويّة الحديثة، ليبرز الاختلاط المؤسّس لها بين المطلق والفرديّ، وخطأ الاعتقاد في انفصال هاته الهويّة عن كلّ المطلقات. ويفعل ذلك عبر تتبّع لحظاتها التكوينيّة في تاريخها الغربيّ، تحت عناوين المسارات الارتقائيّة للهويّة الحديثة، ومعماريّة الهويّة الحديثة. بهذه العناوين يتحدّث عن الجذور الدينيّة للهويّة الحديثة وارتقائها عبر تبطين مفهوم الألوهيّة الذي صيذر التديّن تطابقا مع الذات لا مع الخارج الوجود أو الطبيعة، وحوّل إحداثيذات الإيمان من الكوسموس إلى الذات. أمّا مراحل هذه الصيرورة التكوينيّة فيحدّدها في التأليهيّة الأولى، فالثانية، فالمنعطف الوجدانيّ’ فالثورة التعبيريّة، فالتحالف بين العقل والإيمان الذي تحوّلت معه الحقيقة بالتدرّج من المتعالي إلى المفارق إلى الذات بوصفها المتعالي الجديد.

أمّا الباب الثالث المعنون سياسات الهويّة في الفضاء الأنغلوسكسونيّ، فهو باب تأطيريّ يشرح الإطار التاريخيّ الذي ظهرت فيه الأطروحة التايلوريّة في الهويّة، و هو الإطار الأنغلوسكسونيّ الذي انشغل منذ السبعينات بقضايا التعدّد، و انخرط في تطبيقات سياسيّة تحلّ إشكالات هذه القضايا فيما يعرف بسياسات الهويّة التي تمحورت حول البحث عن السبل السياسيّة لإدراج الاستحقاقات السياسيّة و الماديّة للأعراق و الثقافات الهامشيّة و المظلومة في النسيج المؤسّساتيّ للدولة في أمريكا، كما انخرطت في المستوى الفكري والنّظريّ في جدل بين الفريقين الجماعتيّ و اللّيبراليّ حول طريقة تمثّل الفرد في المجتمعات اللّيبراليّة. وهذا الجدل نتج في الواقع حول الأطروحة التي تصدّت لتقديم الحلول النّظريّة لهذا التمثّل، وهي أطروحة جون رولس في العدالة. وفي هذا الإطار ظهرت أطروحة شارل تايلور بوصفها أطروحة وسطى بين اللّيبراليّين والجماعتيّين.

ويتمثّل الباب الرّابع كما يتحدّد من عنوانه في استكمال العرض التايلوري لشروط إمكان هذه الهويّة التوفيقيّة التي يقترحها شارل تايلور.

2- تقويم الأطروحة التايلوريّة من منظور البحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم

تحت هذا العنوان تثمّن هذه القراءة الأطروحة التايلوريّة من المنظور الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم. ومن هذا الجانب تمن قيمة هذه الأطروحة من جهة أهدافها، والرؤية المتحكّمة فيها، ومن جهة المنهج الذي تمارسه في هذه الصورنة للإنسان، ومن جهة مضمون هذه الصورنة.

فمن جهة الأهداف فإنّ ما يهمّ هذه القراءة في هذه الأطروحة هو هدفها الحضاري العامّ، الذي يتّصل بإشكاليّة تعدّ بؤرة كلّ صراع ثقافي أو عرقي أو دينيّ أو قومي محدّد لتجربة الإنسان في الوجود. وأهميّة هذه الإشكاليّة الحضاريّة هي التي جعلتها في قلب السجالات النظريّة والعمليّة المتعلّقة بوضع الإنسان الفرديّ والجماعيّ. إنّ مشكلة الهويّة تمثّل من هذا الجانب كبرى الإشكاليّات المستعادة والمطروحة باستمرار منذ لحظة الانقلاب الحداثي الذي حوّل الإنسان إلى المنطلق الأوّل للتأسيس.

وبهذه الصورة فإنّ الأطروحة التايلوريّة تتموضع في قلب الهدف الحضاريّ الرّاهن، من جهة الأفق الذي تطمح إليه، فبينما تعدّ الهويّة من عوامل إحياء القبليّة والأصوليّات العرقيّة، وأنواع المركزيّة -وهي اتجاهات رافضة للتعدّديّة الثقافيّة والحضاريّة ولثقافة الاعتراف بالآخر، حين تعرّف الهويّة تعريفا ثابتا، استنادا إلى العامل القومي أو اللّغوي أو العرقيّ- فإنّ هدف تايلور البعيد هو تحويل الهويّة إلى أساس لتعايش الأضداد: الواحد والكثرة، المطلق والنسبيّ، الثبات والتغيّر. وذلك انطلاقا من بنية الهويّة نفسها.

فما يريده تايلور هو سحب هذه الأداة من الخطابات المحافظة التي تمثّلها الخطابات الأصوليّة الإسلاميّة مثلا، ولكن أيضا الحداثيّة التي تقطع الإنسان عن كلّ ارتباطاته النسقيّة المؤسّسة لوجوده وتعرّفه استنادا إلى العقل الوضعيّ الأداتي الذي يتشظّى بموجبه الإنسان ويعزل عن مكوّناته العاملة فيه.

إنّ هذا الهدف هو واحد من أهدافنا الحضاريّة من جهة مفهوم الهويّة الذي يتعيّن علينا فيه التصدّي لخطاب الهويّة المهيمن عندنا، وهو خطاب قائم من ناحية على هذا النزوع إلى تكريس ثقافة أحاديّة لا تؤمن بالاختلاف وترفض قيم الاعتراف والتعدّد الثقافيّ. ولكن من ناحية أخرى على هذا النزوع المواجه إلى تحويل كلّ هويّة إلى مقياس لذاتها. وهو ما يبدّد كلّ الحقائق الجامعة، ويمنع قيام نماذج سلوكيّة وأخلاقيّة تحظى بالاحترام، وهذا يؤدّي إلى “تذرّر” المجتمع وضياع البوصلة عنه. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

تجري قراءتي لهذا الكتاب[1]  الدارس لفلسفة شارل تايلور في ضوء الطلبات والأسئلة التي أطرحها بوصفي باحثا في الحضارة الإسلاميّة في السياق الحديث وما بعد الحديث. ويعني هذا أنّ هذه القراءة تتشكّل في أفق إشكاليّات ومنهج هذه الشعبة البحثّة.

وإذا اكتفينا في شأن المنهج المعتمد في هذه الشعبة بالقول إنّه المنهج التناظميّ أو البينمناهجيّ (interdisciplinaire)، فإنّ الإشكاليّة الكبرى التي تهمّ من هذا الجانب هي خلاصة الإشكاليّات المسبّبة لعطالة الحضارة الإسلاميّة، وامتناعها عن الانخراط في هذا النسق العام من التحوّل الحضاري الذي افتتح مع الحداثة، أو كان عنوانها وراء تشكّلها الغربيّ المخصوص. إنّها تعميما إشكاليّة غياب الإنسان المبدع المنتج للحضارة.

ومن هذا الجانب يبدو مطلب الأنسنة والإنسيّة باعتبارها نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم المعاصر أبرز أسئلتنا الرّاهنة. لقد مثّل هذا المطلب في الفكر العربيّ المعاصر العنوان الأخير لأسئلته المتعلّقة بكيفيّة إدراج العقل الإسلاميّ مجدّدا في عمليّة التغيير الكونيّة.

تعيّنت الإجابة على هذا المطلب في مرحلة أولى لهذا الفكر مع جيله الإصلاحيّ في العثور على كيفيّة تغيير مضامين المعرفة أو تطعيم المعرفة القديمة بمبتكرات المعرفة الغربيّة الجديدة الوافدة مع الحداثة. ثمّ تشكّلت في مرحلة ثانيّة في صورة نوع من الاستدراك والعودة إلى ما كان يتعيّن البداية به، وهو نقد أداة هذه المعرفة، عبر تفكيكها، لبيان معوّقاتها. واتّجه الاهتمام مع جيل ثان للفكر العربيّ إلى أمرين: فمن ناحية أولى كان الانشغال بتبيّن آليّات تفكير هذا العقل المتحكّمة فيه، لتحريرها منها. ومن ناحية ثانية وقع الأمر في شكل سعي إلى التأصيل أريدت من خلاله استعادة الصلة بالأعماق الأولى لهذا العقل المردومة تحت الإيديولوجيّات التاريخيّة الظرفيّة، وذلك لاستعادة الحقّ في التأويل الذاتيّ والأدلجة. وتجسّد هذا السّعي مشاريع نقد العقل العربيّ التي افتتحها محمّد عابد الجابري، وصادق جلال العظم، ورضوان السيّد، وعبد اللّه العروي، ومحمّد أركون. واستعيرت هنا الرؤية الغربيّة لفلاسفة ما بعد الحداثة التي تقوم على فهم الذات من خلال تراثها، كما استعيرت المناهج، وعلى رأسها منهج التفكيك، والمنهج الحفري الجينيالوجي.

ولم تثمر هذه المشاريع توجيهها نحو مفهوم الهويّة العميقة إلاّ في قلّة من المشاريع التي طوّرت هذا المشروع النّقديّ للعقل نحو مطلب الأنسنة في الفكر العربيّ المعاصر. وتجسّد هذا العمل في البحث عن جذور الإنسان و محدّداته في التراث الإسلاميّ في كتابات محمّد أركون خاصّة. هذا التنبّه يبدو موازيا لأبحاث الحبّابيّ حول الشخص والشخصانيّة، وناصيف نصّار، وهي الأبحاث التي ستتطوّر في مجال الفلسفة خاصّة في بعض كتابات فتحي المسكينيّ التي يمكن أن نضعها تحت العنوان الهيدغيري: كيف نكون أنفسنا؟

من هذا المنظور الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، تحدّد في ضوئها طلباته النظريّة والعمليّة (السياسيّة، والاجتماعيّة، والأخلاقيّة..) نقرأ هذا الكتاب الدراس لهذه النمذجة التي يقترحها تايلور لمفهوم الهويّة الإنسانيّة مطبّقة على الإنسان الغربيّ بمفهومه الواسع بين الفضاءين القارّي والأنجلوسكسونيّ.

ستحاول هذه القراءة أن تبيّن ما تقدّمه فلسفة تايلور حول الهويّة للباحث في الحضارة العربيّة الإسلاميّة من المنظور الرّاهن، الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، من جهة أهدافها، ورؤيتها، ومضمونها، ومنهجها.

وتجري هذه القراءة في مرحلتين، تتمثّل أولاها في عرض موجز لمحتوى الكتاب، يليه تصنيف لقيمة هذا المحتوى بالنّسبة إلى الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم، وذلك من جهة أهداف هذه الفلسفة حول الهويّة، ورؤيتها، ومضمونها، ومنهجها.

1- عرض محتوى الكتاب

يقع كتاب مصطفى بن تمسّك في أربعة أبواب، هي الأبواب التالية:

من هويّة الوجود إلى هويّة الأنا
مصادر هويّة الأنا الحديثة
سياسات الهويّة في الفضاء الأنغلوسكسونيّ
شروط إمكان الهويّات البديلة: تلازم الإيتيقيّ والسياسيّ
الباب الأوّل هو عبارة على عرض لرهانات المشروع التايلوري. وهي عموما تتمثّل في اقتراح نمذجة لهويّة الإنسان، تعارض نمذجاته الحديثة الوضعيّة، وتجسر الفجوة القائمة بين تحديده الليبرالي والجماعتيّ. ويترافق تفسير هذا الرّهان بتوضيح لأدواته المنهجيّة. فمن هذا الجانب يكشف بن تمسّك كيف استثمر شارل تايلور التراث الفلسفيّ ليقدّم منهجا مؤلّفا بين الأنتروبولوجيا، والفينومينولوجيا، والمقاربة اللّسانيّة، ليعتمد على الأنتروبولوجيا التأويليّة التي تتفادى اختزاليّة الأنتروبولوجيا للإنسان، وتظهر فيه جميع أبعاده الرمزيّة والباطنيّة، والحاصلة من انغراسه في العالم، وفي السياق نفسه اعتمد على المقاربة التعبيريّة لتفادي نقائص المقاربة اللّسانيّة في اختزاليّتها الوضعيّة أيضا للإنسان.

بهاتين المقاربتين في تضافرهما يبيّن شارل تايلور الأبعاد المنسيّة للهويّة في تأسيسها الحديث، ويعرّفها بمقولات التجسّد، والقصديّة، والانخراط.

أمّا في الباب الثاني فيعود الباحث إلى البحث الذي أنجزه شارل تايلور عن المنابع الثاوية في الهويّة الحديثة، ليبرز الاختلاط المؤسّس لها بين المطلق والفرديّ، وخطأ الاعتقاد في انفصال هاته الهويّة عن كلّ المطلقات. ويفعل ذلك عبر تتبّع لحظاتها التكوينيّة في تاريخها الغربيّ، تحت عناوين المسارات الارتقائيّة للهويّة الحديثة، ومعماريّة الهويّة الحديثة. بهذه العناوين يتحدّث عن الجذور الدينيّة للهويّة الحديثة وارتقائها عبر تبطين مفهوم الألوهيّة الذي صيذر التديّن تطابقا مع الذات لا مع الخارج الوجود أو الطبيعة، وحوّل إحداثيذات الإيمان من الكوسموس إلى الذات. أمّا مراحل هذه الصيرورة التكوينيّة فيحدّدها في التأليهيّة الأولى، فالثانية، فالمنعطف الوجدانيّ’ فالثورة التعبيريّة، فالتحالف بين العقل والإيمان الذي تحوّلت معه الحقيقة بالتدرّج من المتعالي إلى المفارق إلى الذات بوصفها المتعالي الجديد.

أمّا الباب الثالث المعنون سياسات الهويّة في الفضاء الأنغلوسكسونيّ، فهو باب تأطيريّ يشرح الإطار التاريخيّ الذي ظهرت فيه الأطروحة التايلوريّة في الهويّة، و هو الإطار الأنغلوسكسونيّ الذي انشغل منذ السبعينات بقضايا التعدّد، و انخرط في تطبيقات سياسيّة تحلّ إشكالات هذه القضايا فيما يعرف بسياسات الهويّة التي تمحورت حول البحث عن السبل السياسيّة لإدراج الاستحقاقات السياسيّة و الماديّة للأعراق و الثقافات الهامشيّة و المظلومة في النسيج المؤسّساتيّ للدولة في أمريكا، كما انخرطت في المستوى الفكري والنّظريّ في جدل بين الفريقين الجماعتيّ و اللّيبراليّ حول طريقة تمثّل الفرد في المجتمعات اللّيبراليّة. وهذا الجدل نتج في الواقع حول الأطروحة التي تصدّت لتقديم الحلول النّظريّة لهذا التمثّل، وهي أطروحة جون رولس في العدالة. وفي هذا الإطار ظهرت أطروحة شارل تايلور بوصفها أطروحة وسطى بين اللّيبراليّين والجماعتيّين.

ويتمثّل الباب الرّابع كما يتحدّد من عنوانه في استكمال العرض التايلوري لشروط إمكان هذه الهويّة التوفيقيّة التي يقترحها شارل تايلور.

2- تقويم الأطروحة التايلوريّة من منظور البحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم

تحت هذا العنوان تثمّن هذه القراءة الأطروحة التايلوريّة من المنظور الباحث عن نظريّة في الإنسان العربيّ المسلم. ومن هذا الجانب تمن قيمة هذه الأطروحة من جهة أهدافها، والرؤية المتحكّمة فيها، ومن جهة المنهج الذي تمارسه في هذه الصورنة للإنسان، ومن جهة مضمون هذه الصورنة.

فمن جهة الأهداف فإنّ ما يهمّ هذه القراءة في هذه الأطروحة هو هدفها الحضاري العامّ، الذي يتّصل بإشكاليّة تعدّ بؤرة كلّ صراع ثقافي أو عرقي أو دينيّ أو قومي محدّد لتجربة الإنسان في الوجود. وأهميّة هذه الإشكاليّة الحضاريّة هي التي جعلتها في قلب السجالات النظريّة والعمليّة المتعلّقة بوضع الإنسان الفرديّ والجماعيّ. إنّ مشكلة الهويّة تمثّل من هذا الجانب كبرى الإشكاليّات المستعادة والمطروحة باستمرار منذ لحظة الانقلاب الحداثي الذي حوّل الإنسان إلى المنطلق الأوّل للتأسيس.

وبهذه الصورة فإنّ الأطروحة التايلوريّة تتموضع في قلب الهدف الحضاريّ الرّاهن، من جهة الأفق الذي تطمح إليه، فبينما تعدّ الهويّة من عوامل إحياء القبليّة والأصوليّات العرقيّة، وأنواع المركزيّة -وهي اتجاهات رافضة للتعدّديّة الثقافيّة والحضاريّة ولثقافة الاعتراف بالآخر، حين تعرّف الهويّة تعريفا ثابتا، استنادا إلى العامل القومي أو اللّغوي أو العرقيّ-  فإنّ هدف تايلور البعيد هو تحويل الهويّة إلى أساس لتعايش الأضداد: الواحد والكثرة، المطلق والنسبيّ، الثبات والتغيّر. وذلك انطلاقا من بنية الهويّة نفسها.

فما يريده تايلور هو سحب هذه الأداة من الخطابات المحافظة التي تمثّلها الخطابات الأصوليّة الإسلاميّة مثلا، ولكن أيضا الحداثيّة التي تقطع الإنسان عن كلّ ارتباطاته النسقيّة المؤسّسة لوجوده وتعرّفه استنادا إلى العقل الوضعيّ الأداتي الذي يتشظّى بموجبه الإنسان ويعزل عن مكوّناته العاملة فيه.

إنّ هذا الهدف هو واحد من أهدافنا الحضاريّة من جهة مفهوم الهويّة الذي يتعيّن علينا فيه التصدّي لخطاب الهويّة المهيمن عندنا، وهو خطاب قائم من ناحية على هذا النزوع إلى تكريس ثقافة أحاديّة لا تؤمن بالاختلاف وترفض قيم الاعتراف والتعدّد الثقافيّ. ولكن من ناحية أخرى على هذا النزوع المواجه إلى تحويل كلّ هويّة إلى مقياس لذاتها. وهو ما يبدّد كلّ الحقائق الجامعة، ويمنع قيام نماذج سلوكيّة وأخلاقيّة تحظى بالاحترام، وهذا يؤدّي إلى “تذرّر” المجتمع وضياع البوصلة عنه.



سنة النشر : 2022م / 1443هـ .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا)

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا)
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
أنس الطريقي - Anas Al Tariqi

كتب أنس الطريقي باحث تونسي حاصل على درجة الدكتوراه وعلى شهادة الماجستير في الآداب واللّغة العربيّة، وهو أستاذ مساعد للتعليم العالي اختصاص حضارة حديثة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في القيروان- تونس. وينتمي إلى وحدة بحث "الأديان والحضارات" بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، تونس. مهتمّ بقضايا الدين والسياسة، وقضايا تجديد الفكر الديني، والدراسات الإسلاميّة. يشرف أنس الطريقي على التحكيم العلمي لبحوث قسم الدين والسياسة في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا) ❝ الناشرين : ❞ دار فواصل للنشر والتوزيع ❝ ❱. المزيد..

كتب أنس الطريقي
الناشر:
دار فواصل للنشر والتوزيع
كتب دار فواصل للنشر والتوزيعبدأت الدار مشوارها في عام 2018، تهتم في نشر الأعمال الأدبية والفكرية والثقافية. ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ غير قابل للكتمان ❝ ❞ منتصف الدرج ❝ ❞ قراءة في كتاب: أصول الهوية الحديثة وعللها (مقاربة شارل تايلور نموذجا) ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ محمد المشد ❝ ❞ حنان عبدالله القعود ❝ ❞ أنس الطريقي ❝ ❱.المزيد.. كتب دار فواصل للنشر والتوزيع