❞ كتاب Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era ❝  ⏤ أوزغور كوجا

❞ كتاب Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era ❝ ⏤ أوزغور كوجا

“الإسلام والسببية والحرية: من العصور الوسطى إلى العصر الحديث” مُراجعة كتاب

أحمد ت. كورو أحمد ت. كورو

عنوان الكتاب: الإسلام والسببية والحرية: من العصور الوسطى إلى العصر الحديث

العنوان الأصلي للكتاب: Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era

الكاتب: أوزغور كوجا

نجح أوزغور كوجا في هذا الكتاب الطموح والمثير للإعجاب، في تقديم تحليل عميق لطرح المفكرين المسلمين الكبار حول السببية من حيث علاقتها بـ “الله والإنسان والطبيعة” في الفترة الممتدة من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن العشرين الميلادي، فبعد دراسته لطرحِ متكلمي المعتزلة والأشاعرة الأوائل، ركز كوجا على أحد عشر عالماً: فيلسوفان (ابن سينا [980م -1037م] وأبو الوليد ابن رشد[1126م – 1198م])، وثلاثة متكلمين أشاعرة (أبو حامد الغزالي [1058م – 1111م] ، فخر الدين الرازي [1150م – 1209م] ، والجرجاني [ت. 1413])، وستة علماء متصوفة (السهروردي [ت1191م]، وابن عربي [1165م – 1240م]، والقونوي [1209م-1274م] ، والقَيْصَري [ت. 1350 م] ، وملا صدرا الشيرازي [1572م-1640م]، وسعيد النورسي [ 1876م – 1960م]).

حظي المتكلمون المعتزلة بتأثيرات متباينة ولكنها مهمة في العالم الإسلامي منذ منتصف القرن الثامن الميلادي إلى منتصف القرن الحادي عشر؛ حيث شددوا على وحدانية الله وعدله، وجادلوا بأنه “من اللازم أن يفعل الله ما هو أمثل ليكون كاملاً أخلاقياً“؛ بالنسبة للمعتزلة “الله لا يختار ولا يمكنه الاختيار أن يكون شريرًا أو قبيحًا، يختار الله بالضرورة الخير ويرتبط به، للحفاظ على العدل” (ص: 23).

يشرح كوجا مع شيء من التفصيل كيف اختلف بشدة المتكلمون الأشاعرة (الذين ظهروا في أوائل القرن العاشر ميلادي)، مع المدرسة الاعتزالية في علم الكلام؛ بالنسبة إلى الأشاعرة، فهم يرون وجود ضرورةٍ أخلاقيةٍ هو ما يُفضي إلى “تقويضٍ للإرادة الإلهية والحرية“، لأنه “لا ينبغي على المرء أن يبحث عن سبب أو هدف أو حتى حكمة في أفعال الله“، كما شدد الأشاعرة على مسألة أن “لله مطلقُ الحرية في تنزيل مشيئته“. (ص: 23).

بينما ظهر الأشاعرة الأوائل كرد فعل على المُتكلمين المعتزلة، فقد طور بعد ذلك اثنان من أرباب المتكلمين الأشاعرة وهما الغزالي والرازي طرحهما العلمي كرد على طرح الفلسفة الإسلامية وخاصة ما جاء به ابن سينا. يشرح كوجا كيف جعل الفلاسفة المسلمون مفاهيم أرسطو عن “الطبيعة” و”الضرورة” ركائز مهمة لفلسفتهم الميتافيزيقية؛ بالنسبة لهم، للأشياء طبيعة تحدد سلوكياتها، رفضَ الأشاعرة فكرة “الضرورة” باعتبارها تضعُ حداً مرفوضاً لحرية الله ولمشيئة تصرفه؛ كان هذا الرفض أساس “علم كونيات جديد للأشاعرة؛ مفادهُ استبدال فكرة الضرورة بفكرة الاحتمال” (11)، في تحديد العلاقة بين “قوة الله في الخلق” و”قوة البشر المكتسبة“؛ يدعو الأشاعرة إلى “مبدأ العرضية” (occasionalist) لأنهم يدافعون عن الطرح الرامي إلى أن “إرادة الله وقوته تخلق كل الأشياء” و”كسب” الإنسان يغدوا عرضاً “لفعلِ الخلاقِ الإلهي” (11-2).

حجر الأرض إمتاع عابر للحقول

بطل الجبل

سيطر المنظور الأشعري على الفكر الإسلامي منذ منتصف القرن الحادي عشر ميلادي، وفي هذا الصدد لدى كوجا انتقادان محوريان لهذه المدرسة الكلامية الإسلامية التي يُمكنُ اعتبارها الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي؛ أولا، تكاد الأشعرية تنفي إرادة الإنسان الحرة، ثانيًا، تظل الأشعرية حسب كوجا عاجزة عن تقديم إجابات قوية لسؤال الثيودسي (نظرية العدالة الإلهية) (ص: 254، 260). في الواقع، يمكننا الجمع بين الإشكاليين في سؤال واحد مفاده؛ إذا كان الله يخلق كل شيء، بما في ذلك إرادة البشر فكيف يمكن للإنسان أن يتحمل مسؤولية أعماله الشريرة؟

إن حل كوجة لمعضلات الأشاعرة لا يكمن في إصلاحها أو إعادة الاعتبار للتيار الاعتزالي، ولكن بدلاً من ذلك، فهو يدافع عن المزاوجة كبديل ثالث؛ أي المبدأ التشاركي“( participatory) للسببية و”الإرادة الإلهية” و”الإرادة البشرية”؛ هذا البديل يتمحور حول مسألة الوجود؛ يلخص كوجا هذا الطرح المُركب على النحو التالي: “بالمشاركة في الوجود الإلهي” فإن البشر “يشاركون أيضًا في الحرية الإلهية” (12-3)؛ وفق هذا المنظور، فإن حرية الإنسان هي “تجل من تجليات حرية الله“؛ لذلك، “يمكن أن يُنسب نفس الفعل لله والإنسان في نفس الوقت“. (ص: 133).

يوضح كوجا أن هذا النهج له امتداد قديم في تاريخ العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من أنه لم يتم التأكيد عليه صراحة كنهج بديل للطرح الأشعري، كما يلاحظ أنه حتى الفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد يميلون إلى موافقة الفهم التشاركي (the participatory understanding) للسببية، ومع ذلك، فقد تم وضع هذا الفهم بشكل كامل من قبل ستة علماء متصوفة؛ قام كوجا بمُدارسة طرحهم بشكل مفصل؛ من هؤلاء العلماء المتصوفة، نجد ابن عربي الذي كان أحد الشخصيات البارزة التي سعت إلى توضيح هذا النهج القائم على العلائقية بين الله والبشر؛ بالنسبة لابن عربي فإن “العالم ليس سوى عَرْض ممتدٌ لا نهاية له ودائم التغيير لأسماء الله الحسنى “ وجميع الموجودات، بما في ذلك البشر، “ليسوا سوى رابطة للأعمال الإلهية أو المظاهر الإلهية (theophany)” (ص: 120).

هناك أسباب عديدة تدعو إلى الثناء على هذا الكتاب القيم الذي قدمه كوجا؛ فتغطيته لحقبة زمنية تتجاوز الألف عام هو بحد ذاته عمل نادر الحدوث، ناهيك عن أنه مكتوب بطريقة مميزة وجذابة ومركّزة بشكل منضبط بسؤال البحث؛ يستخدم كوجا المصادر التأسيسية بلغات متعددة، بالإضافة إلى مناقشة المصادر الثانوية الضرورية المرتبطة بالمفكرين الأحد عشر، بالإضافة أني أشيد بقدرة المؤلف على تكثيف أفكار المدارس الفكرية المختلفة بطريقة تحليلية منصفة، مع تقديمه أيضًا لآرائه عندما تتطلبُ ضرورة التحليلِ ذلك.

مثل هذه الكتب الطموحة تجعلنا بشكل طبيعي نختلف مع بعض الأفكار التي تحملها؛ وأريد أن أشير هنا إلى أمرين أساسين على سبيل النقد؛ يتعلق أحدهما بتدعيم المؤلف النهج التشاركي للسببية كبديل للمدرسة الأشعرية المهيمنة، غير أنه لم يُوضح كيف يمكن لهذا البديل أن يُصلِحَ من مشاكل المنهج الأشعري، ولا سيما ما هو مرتبط بنفي الإرادة البشرية الحرة، وهو كفيل بأن يسقطنا في شراكِ الحتمية والقدرية، فالنهج التشاركي يفترض أنه لا يوجد فصل بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية؛ ومن ثم، فإنه يذكرنا بمفهوم بعض المتصوفة عن “وحدة الوجود“؛ مما قد يؤدي إلى نفي أكثر وطأة للإرادة الحرة للبشر، أنهى كوجا كتابه بالإشارة إلى أن مشروعه التالي سوف يُعالجُ الآثار الأخلاقية والسياسية المترتبة عن النهج التشاركي، وهو عمل يستحقُ التطلعَ إليه .

أما النقد الثاني للكتاب فهو يحوم حول عدم وجود سياق تاريخي كافٍ؛ أثناء تحليل تاريخ علم الكلام الإسلامي الذي يمتد لألف عام، لا يزود الكتابُ القارئ بالخلفيات الاجتماعية أو الآثار المترتبة على هذه الأفكار؛ على سبيل المثال، لا يتطرق الكتاب إلى الجدل المرتبط بالتدهور أو على أقل تقدير الركود الذي عرفه المنتَج العلمي والفلسفي، الذي طبعَ العالم الإسلامي بعد منتصف القرن الحادي عشر، ولا سيما بعد القرن الخامس عشر.

يُحلل كوجا العلاقة بين العرضية الأشعرية والعلوم الطبيعية في حالات الرازي والجرجاني والنورسي، لكن دراسته تقتصر على أفكار هؤلاء المفكرين ولا تشتمل آثارها العملية على الإنتاج العلمي الإسلامي، في حين أنه كان من الممكن أن يناقش الروابط المحتملة (والمتنازع عليها) بين إنكار الغزالي وغيره من المتكلمين الأشاعرة للعلاقات السببية بالأحداث الطبيعية وتراجع البحث العلمي والفلسفي داخل العالم الإسلامي.

في الواقع، يبدو أن اختيار العلماء الذين تمت دراستهم في الكتاب يدعم ضمنيًا مثل هذا الترابط؛ فمن أصل أحد عشر مفكراً، عاش سبعة منهم خلال الفترة الممتدة بين القرنين العاشر والثالث عشر، فيما عاش اثنان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وعاش اثنان فقط في القرون الخمسة الأخيرة.

يُمكنُ اعتبار كتاب “الإسلام والسببية والحرية” إضافة مرحبا بها في مجال الدراسات الإسلامية، ينصحُ بقراءته من طرف المهتمين بالفكر الإسلامي، كما أنه كتابٌ واعدٌ للمناقشة والمدارسة لقادم الأيام.
أوزغور كوجا - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era ❝ الناشرين : ❞ جامعة كامبردج للنشر ❝ ❱
من كتب إسلامية بلغات أخرى - مكتبة كتب إسلامية.

نبذة عن الكتاب:
Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era

2020م - 1446هـ
“الإسلام والسببية والحرية: من العصور الوسطى إلى العصر الحديث” مُراجعة كتاب

أحمد ت. كورو أحمد ت. كورو

عنوان الكتاب: الإسلام والسببية والحرية: من العصور الوسطى إلى العصر الحديث

العنوان الأصلي للكتاب: Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era

الكاتب: أوزغور كوجا

نجح أوزغور كوجا في هذا الكتاب الطموح والمثير للإعجاب، في تقديم تحليل عميق لطرح المفكرين المسلمين الكبار حول السببية من حيث علاقتها بـ “الله والإنسان والطبيعة” في الفترة الممتدة من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن العشرين الميلادي، فبعد دراسته لطرحِ متكلمي المعتزلة والأشاعرة الأوائل، ركز كوجا على أحد عشر عالماً: فيلسوفان (ابن سينا [980م -1037م] وأبو الوليد ابن رشد[1126م – 1198م])، وثلاثة متكلمين أشاعرة (أبو حامد الغزالي [1058م – 1111م] ، فخر الدين الرازي [1150م – 1209م] ، والجرجاني [ت. 1413])، وستة علماء متصوفة (السهروردي [ت1191م]، وابن عربي [1165م – 1240م]، والقونوي [1209م-1274م] ، والقَيْصَري [ت. 1350 م] ، وملا صدرا الشيرازي [1572م-1640م]، وسعيد النورسي [ 1876م – 1960م]).

حظي المتكلمون المعتزلة بتأثيرات متباينة ولكنها مهمة في العالم الإسلامي منذ منتصف القرن الثامن الميلادي إلى منتصف القرن الحادي عشر؛ حيث شددوا على وحدانية الله وعدله، وجادلوا بأنه “من اللازم أن يفعل الله ما هو أمثل ليكون كاملاً أخلاقياً“؛ بالنسبة للمعتزلة “الله لا يختار ولا يمكنه الاختيار أن يكون شريرًا أو قبيحًا، يختار الله بالضرورة الخير ويرتبط به، للحفاظ على العدل” (ص: 23).

يشرح كوجا مع شيء من التفصيل كيف اختلف بشدة المتكلمون الأشاعرة (الذين ظهروا في أوائل القرن العاشر ميلادي)، مع المدرسة الاعتزالية في علم الكلام؛ بالنسبة إلى الأشاعرة، فهم يرون وجود ضرورةٍ أخلاقيةٍ هو ما يُفضي إلى “تقويضٍ للإرادة الإلهية والحرية“، لأنه “لا ينبغي على المرء أن يبحث عن سبب أو هدف أو حتى حكمة في أفعال الله“، كما شدد الأشاعرة على مسألة أن “لله مطلقُ الحرية في تنزيل مشيئته“. (ص: 23).

بينما ظهر الأشاعرة الأوائل كرد فعل على المُتكلمين المعتزلة، فقد طور بعد ذلك اثنان من أرباب المتكلمين الأشاعرة وهما الغزالي والرازي طرحهما العلمي كرد على طرح الفلسفة الإسلامية وخاصة ما جاء به ابن سينا. يشرح كوجا كيف جعل الفلاسفة المسلمون مفاهيم أرسطو عن “الطبيعة” و”الضرورة” ركائز مهمة لفلسفتهم الميتافيزيقية؛ بالنسبة لهم، للأشياء طبيعة تحدد سلوكياتها، رفضَ الأشاعرة فكرة “الضرورة” باعتبارها تضعُ حداً مرفوضاً لحرية الله ولمشيئة تصرفه؛ كان هذا الرفض أساس “علم كونيات جديد للأشاعرة؛ مفادهُ استبدال فكرة الضرورة بفكرة الاحتمال” (11)، في تحديد العلاقة بين “قوة الله في الخلق” و”قوة البشر المكتسبة“؛ يدعو الأشاعرة إلى “مبدأ العرضية” (occasionalist) لأنهم يدافعون عن الطرح الرامي إلى أن “إرادة الله وقوته تخلق كل الأشياء” و”كسب” الإنسان يغدوا عرضاً “لفعلِ الخلاقِ الإلهي” (11-2).

حجر الأرض إمتاع عابر للحقول

بطل الجبل

سيطر المنظور الأشعري على الفكر الإسلامي منذ منتصف القرن الحادي عشر ميلادي، وفي هذا الصدد لدى كوجا انتقادان محوريان لهذه المدرسة الكلامية الإسلامية التي يُمكنُ اعتبارها الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي؛ أولا، تكاد الأشعرية تنفي إرادة الإنسان الحرة، ثانيًا، تظل الأشعرية حسب كوجا عاجزة عن تقديم إجابات قوية لسؤال الثيودسي (نظرية العدالة الإلهية) (ص: 254، 260). في الواقع، يمكننا الجمع بين الإشكاليين في سؤال واحد مفاده؛ إذا كان الله يخلق كل شيء، بما في ذلك إرادة البشر فكيف يمكن للإنسان أن يتحمل مسؤولية أعماله الشريرة؟

إن حل كوجة لمعضلات الأشاعرة لا يكمن في إصلاحها أو إعادة الاعتبار للتيار الاعتزالي، ولكن بدلاً من ذلك، فهو يدافع عن المزاوجة كبديل ثالث؛ أي المبدأ التشاركي“( participatory) للسببية و”الإرادة الإلهية” و”الإرادة البشرية”؛ هذا البديل يتمحور حول مسألة الوجود؛ يلخص كوجا هذا الطرح المُركب على النحو التالي: “بالمشاركة في الوجود الإلهي” فإن البشر “يشاركون أيضًا في الحرية الإلهية” (12-3)؛ وفق هذا المنظور، فإن حرية الإنسان هي “تجل من تجليات حرية الله“؛ لذلك، “يمكن أن يُنسب نفس الفعل لله والإنسان في نفس الوقت“. (ص: 133).

يوضح كوجا أن هذا النهج له امتداد قديم في تاريخ العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من أنه لم يتم التأكيد عليه صراحة كنهج بديل للطرح الأشعري، كما يلاحظ أنه حتى الفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد يميلون إلى موافقة الفهم التشاركي (the participatory understanding) للسببية، ومع ذلك، فقد تم وضع هذا الفهم بشكل كامل من قبل ستة علماء متصوفة؛ قام كوجا بمُدارسة طرحهم بشكل مفصل؛ من هؤلاء العلماء المتصوفة، نجد ابن عربي الذي كان أحد الشخصيات البارزة التي سعت إلى توضيح هذا النهج القائم على العلائقية بين الله والبشر؛ بالنسبة لابن عربي فإن “العالم ليس سوى عَرْض ممتدٌ لا نهاية له ودائم التغيير لأسماء الله الحسنى “ وجميع الموجودات، بما في ذلك البشر، “ليسوا سوى رابطة للأعمال الإلهية أو المظاهر الإلهية (theophany)” (ص: 120).

هناك أسباب عديدة تدعو إلى الثناء على هذا الكتاب القيم الذي قدمه كوجا؛ فتغطيته لحقبة زمنية تتجاوز الألف عام هو بحد ذاته عمل نادر الحدوث، ناهيك عن أنه مكتوب بطريقة مميزة وجذابة ومركّزة بشكل منضبط بسؤال البحث؛ يستخدم كوجا المصادر التأسيسية بلغات متعددة، بالإضافة إلى مناقشة المصادر الثانوية الضرورية المرتبطة بالمفكرين الأحد عشر، بالإضافة أني أشيد بقدرة المؤلف على تكثيف أفكار المدارس الفكرية المختلفة بطريقة تحليلية منصفة، مع تقديمه أيضًا لآرائه عندما تتطلبُ ضرورة التحليلِ ذلك.

مثل هذه الكتب الطموحة تجعلنا بشكل طبيعي نختلف مع بعض الأفكار التي تحملها؛ وأريد أن أشير هنا إلى أمرين أساسين على سبيل النقد؛ يتعلق أحدهما بتدعيم المؤلف النهج التشاركي للسببية كبديل للمدرسة الأشعرية المهيمنة، غير أنه لم يُوضح كيف يمكن لهذا البديل أن يُصلِحَ من مشاكل المنهج الأشعري، ولا سيما ما هو مرتبط بنفي الإرادة البشرية الحرة، وهو كفيل بأن يسقطنا في شراكِ الحتمية والقدرية، فالنهج التشاركي يفترض أنه لا يوجد فصل بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية؛ ومن ثم، فإنه يذكرنا بمفهوم بعض المتصوفة عن “وحدة الوجود“؛ مما قد يؤدي إلى نفي أكثر وطأة للإرادة الحرة للبشر، أنهى كوجا كتابه بالإشارة إلى أن مشروعه التالي سوف يُعالجُ الآثار الأخلاقية والسياسية المترتبة عن النهج التشاركي، وهو عمل يستحقُ التطلعَ إليه .

أما النقد الثاني للكتاب فهو يحوم حول عدم وجود سياق تاريخي كافٍ؛ أثناء تحليل تاريخ علم الكلام الإسلامي الذي يمتد لألف عام، لا يزود الكتابُ القارئ بالخلفيات الاجتماعية أو الآثار المترتبة على هذه الأفكار؛ على سبيل المثال، لا يتطرق الكتاب إلى الجدل المرتبط بالتدهور أو على أقل تقدير الركود الذي عرفه المنتَج العلمي والفلسفي، الذي طبعَ العالم الإسلامي بعد منتصف القرن الحادي عشر، ولا سيما بعد القرن الخامس عشر.

يُحلل كوجا العلاقة بين العرضية الأشعرية والعلوم الطبيعية في حالات الرازي والجرجاني والنورسي، لكن دراسته تقتصر على أفكار هؤلاء المفكرين ولا تشتمل آثارها العملية على الإنتاج العلمي الإسلامي، في حين أنه كان من الممكن أن يناقش الروابط المحتملة (والمتنازع عليها) بين إنكار الغزالي وغيره من المتكلمين الأشاعرة للعلاقات السببية بالأحداث الطبيعية وتراجع البحث العلمي والفلسفي داخل العالم الإسلامي.

في الواقع، يبدو أن اختيار العلماء الذين تمت دراستهم في الكتاب يدعم ضمنيًا مثل هذا الترابط؛ فمن أصل أحد عشر مفكراً، عاش سبعة منهم خلال الفترة الممتدة بين القرنين العاشر والثالث عشر، فيما عاش اثنان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وعاش اثنان فقط في القرون الخمسة الأخيرة.

يُمكنُ اعتبار كتاب “الإسلام والسببية والحرية” إضافة مرحبا بها في مجال الدراسات الإسلامية، ينصحُ بقراءته من طرف المهتمين بالفكر الإسلامي، كما أنه كتابٌ واعدٌ للمناقشة والمدارسة لقادم الأيام. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

“الإسلام والسببية والحرية: من العصور الوسطى إلى العصر الحديث” مُراجعة كتاب

أحمد ت. كورو أحمد ت. كورو

عنوان الكتاب: الإسلام والسببية والحرية: من العصور الوسطى إلى العصر الحديث

العنوان الأصلي للكتاب: Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era

الكاتب: أوزغور كوجا

نجح أوزغور كوجا في هذا الكتاب الطموح والمثير للإعجاب، في تقديم تحليل عميق لطرح المفكرين المسلمين الكبار حول السببية من حيث علاقتها بـ “الله والإنسان والطبيعة” في الفترة الممتدة من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن العشرين الميلادي، فبعد دراسته لطرحِ متكلمي المعتزلة والأشاعرة الأوائل، ركز كوجا على أحد عشر عالماً: فيلسوفان (ابن سينا [980م -1037م] وأبو الوليد ابن رشد[1126م – 1198م])، وثلاثة متكلمين أشاعرة (أبو حامد الغزالي [1058م – 1111م] ، فخر الدين الرازي [1150م – 1209م] ، والجرجاني [ت. 1413])، وستة علماء متصوفة (السهروردي [ت1191م]، وابن عربي [1165م – 1240م]، والقونوي [1209م-1274م] ، والقَيْصَري [ت. 1350 م] ، وملا صدرا الشيرازي [1572م-1640م]، وسعيد النورسي [ 1876م – 1960م]).

حظي المتكلمون المعتزلة بتأثيرات متباينة ولكنها مهمة في العالم الإسلامي منذ منتصف القرن الثامن الميلادي إلى منتصف القرن الحادي عشر؛ حيث شددوا على وحدانية الله وعدله، وجادلوا بأنه “من اللازم أن يفعل الله ما هو أمثل ليكون كاملاً أخلاقياً“؛ بالنسبة للمعتزلة “الله لا يختار ولا يمكنه الاختيار أن يكون شريرًا أو قبيحًا، يختار الله بالضرورة الخير ويرتبط به، للحفاظ على العدل” (ص: 23).

يشرح كوجا مع شيء من التفصيل كيف اختلف بشدة المتكلمون الأشاعرة (الذين ظهروا في أوائل القرن العاشر ميلادي)، مع المدرسة الاعتزالية في علم الكلام؛ بالنسبة إلى الأشاعرة، فهم يرون وجود ضرورةٍ أخلاقيةٍ هو ما يُفضي إلى “تقويضٍ للإرادة الإلهية والحرية“، لأنه “لا ينبغي على المرء أن يبحث عن سبب أو هدف أو حتى حكمة في أفعال الله“، كما شدد الأشاعرة على مسألة أن “لله مطلقُ الحرية في تنزيل مشيئته“. (ص: 23).

بينما ظهر الأشاعرة الأوائل كرد فعل على المُتكلمين المعتزلة، فقد طور بعد ذلك اثنان من أرباب المتكلمين الأشاعرة وهما الغزالي والرازي طرحهما العلمي كرد على طرح الفلسفة الإسلامية وخاصة ما جاء به ابن سينا. يشرح كوجا كيف جعل الفلاسفة المسلمون مفاهيم أرسطو عن “الطبيعة” و”الضرورة” ركائز مهمة لفلسفتهم الميتافيزيقية؛ بالنسبة لهم، للأشياء طبيعة تحدد سلوكياتها، رفضَ الأشاعرة فكرة “الضرورة” باعتبارها تضعُ حداً مرفوضاً لحرية الله ولمشيئة تصرفه؛ كان هذا الرفض أساس “علم كونيات جديد للأشاعرة؛ مفادهُ استبدال فكرة الضرورة بفكرة الاحتمال” (11)، في تحديد العلاقة بين “قوة الله في الخلق” و”قوة البشر المكتسبة“؛ يدعو الأشاعرة إلى “مبدأ العرضية” (occasionalist) لأنهم يدافعون عن الطرح الرامي إلى أن “إرادة الله وقوته تخلق كل الأشياء” و”كسب” الإنسان يغدوا عرضاً “لفعلِ الخلاقِ الإلهي” (11-2).

حجر الأرض إمتاع عابر للحقول

بطل الجبل

سيطر المنظور الأشعري على الفكر الإسلامي منذ منتصف القرن الحادي عشر ميلادي، وفي هذا الصدد لدى كوجا انتقادان محوريان لهذه المدرسة الكلامية الإسلامية التي يُمكنُ اعتبارها الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي؛ أولا، تكاد الأشعرية تنفي إرادة الإنسان الحرة، ثانيًا، تظل الأشعرية حسب كوجا عاجزة عن تقديم إجابات قوية لسؤال الثيودسي (نظرية العدالة الإلهية) (ص: 254، 260). في الواقع، يمكننا الجمع بين الإشكاليين في سؤال واحد مفاده؛ إذا كان الله يخلق كل شيء، بما في ذلك إرادة البشر فكيف يمكن للإنسان أن يتحمل مسؤولية أعماله الشريرة؟

إن حل كوجة لمعضلات الأشاعرة لا يكمن في إصلاحها أو إعادة الاعتبار للتيار الاعتزالي، ولكن بدلاً من ذلك، فهو يدافع عن المزاوجة كبديل ثالث؛ أي المبدأ التشاركي“( participatory) للسببية و”الإرادة الإلهية” و”الإرادة البشرية”؛ هذا البديل يتمحور حول مسألة الوجود؛ يلخص كوجا هذا الطرح المُركب على النحو التالي: “بالمشاركة في الوجود الإلهي” فإن البشر “يشاركون أيضًا في الحرية الإلهية” (12-3)؛ وفق هذا المنظور، فإن حرية الإنسان هي “تجل من تجليات حرية الله“؛ لذلك، “يمكن أن يُنسب نفس الفعل لله والإنسان في نفس الوقت“. (ص: 133).

يوضح كوجا أن هذا النهج له امتداد قديم في تاريخ العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من أنه لم يتم التأكيد عليه صراحة كنهج بديل للطرح الأشعري، كما يلاحظ أنه حتى الفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد يميلون إلى موافقة الفهم التشاركي (the participatory understanding) للسببية، ومع ذلك، فقد تم وضع هذا الفهم بشكل كامل من قبل ستة علماء متصوفة؛ قام كوجا بمُدارسة طرحهم بشكل مفصل؛ من هؤلاء العلماء المتصوفة، نجد ابن عربي الذي كان أحد الشخصيات البارزة التي سعت إلى توضيح هذا النهج القائم على العلائقية بين الله والبشر؛ بالنسبة لابن عربي فإن “العالم ليس سوى عَرْض ممتدٌ لا نهاية له ودائم التغيير لأسماء الله الحسنى “ وجميع الموجودات، بما في ذلك البشر، “ليسوا سوى رابطة للأعمال الإلهية أو المظاهر الإلهية (theophany)” (ص: 120).

هناك أسباب عديدة تدعو إلى الثناء على هذا الكتاب القيم الذي قدمه كوجا؛ فتغطيته لحقبة زمنية تتجاوز الألف عام هو بحد ذاته عمل نادر الحدوث، ناهيك عن أنه مكتوب بطريقة مميزة وجذابة ومركّزة بشكل منضبط بسؤال البحث؛ يستخدم كوجا المصادر التأسيسية بلغات متعددة، بالإضافة إلى مناقشة المصادر الثانوية الضرورية المرتبطة بالمفكرين الأحد عشر، بالإضافة أني أشيد بقدرة المؤلف على تكثيف أفكار المدارس الفكرية المختلفة بطريقة تحليلية منصفة، مع تقديمه أيضًا لآرائه عندما تتطلبُ ضرورة التحليلِ ذلك.

مثل هذه الكتب الطموحة تجعلنا بشكل طبيعي نختلف مع بعض الأفكار التي تحملها؛ وأريد أن أشير هنا إلى أمرين أساسين على سبيل النقد؛ يتعلق أحدهما بتدعيم المؤلف النهج التشاركي للسببية كبديل للمدرسة الأشعرية المهيمنة، غير أنه لم يُوضح كيف يمكن لهذا البديل أن يُصلِحَ من مشاكل المنهج الأشعري، ولا سيما ما هو مرتبط بنفي الإرادة البشرية الحرة، وهو كفيل بأن يسقطنا في شراكِ الحتمية والقدرية، فالنهج التشاركي يفترض أنه لا يوجد فصل بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية؛ ومن ثم، فإنه يذكرنا بمفهوم بعض المتصوفة عن “وحدة الوجود“؛ مما قد يؤدي إلى نفي أكثر وطأة للإرادة الحرة للبشر، أنهى كوجا كتابه بالإشارة إلى أن مشروعه التالي سوف يُعالجُ الآثار الأخلاقية والسياسية المترتبة عن النهج التشاركي، وهو عمل يستحقُ التطلعَ إليه .

أما النقد الثاني للكتاب فهو يحوم حول عدم وجود سياق تاريخي كافٍ؛ أثناء تحليل تاريخ علم الكلام الإسلامي الذي يمتد لألف عام، لا يزود الكتابُ القارئ بالخلفيات الاجتماعية أو الآثار المترتبة على هذه الأفكار؛ على سبيل المثال، لا يتطرق الكتاب إلى الجدل المرتبط بالتدهور أو على أقل تقدير الركود الذي عرفه المنتَج العلمي والفلسفي، الذي طبعَ العالم الإسلامي بعد منتصف القرن الحادي عشر، ولا سيما بعد القرن الخامس عشر.

يُحلل كوجا العلاقة بين العرضية الأشعرية والعلوم الطبيعية في حالات الرازي والجرجاني والنورسي، لكن دراسته تقتصر على أفكار هؤلاء المفكرين ولا تشتمل آثارها العملية على الإنتاج العلمي الإسلامي، في حين أنه كان من الممكن أن يناقش الروابط المحتملة (والمتنازع عليها) بين إنكار الغزالي وغيره من المتكلمين الأشاعرة للعلاقات السببية بالأحداث الطبيعية وتراجع البحث العلمي والفلسفي داخل العالم الإسلامي.

في الواقع، يبدو أن اختيار العلماء الذين تمت دراستهم في الكتاب يدعم ضمنيًا مثل هذا الترابط؛ فمن أصل أحد عشر مفكراً، عاش سبعة منهم خلال الفترة الممتدة بين القرنين العاشر والثالث عشر، فيما عاش اثنان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وعاش اثنان فقط في القرون الخمسة الأخيرة.

يُمكنُ اعتبار كتاب “الإسلام والسببية والحرية” إضافة مرحبا بها في مجال الدراسات الإسلامية، ينصحُ بقراءته من طرف المهتمين بالفكر الإسلامي، كما أنه كتابٌ واعدٌ للمناقشة والمدارسة لقادم الأيام.



سنة النشر : 2020م / 1441هـ .
عداد القراءة: عدد قراءة Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

المؤلف:
أوزغور كوجا -

كتب أوزغور كوجا ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era ❝ الناشرين : ❞ جامعة كامبردج للنشر ❝ ❱. المزيد..

كتب أوزغور كوجا
الناشر:
جامعة كامبردج للنشر
كتب جامعة كامبردج للنشر ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ Islam, Causality, and Freedom: From the Medieval to the Modern Era ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ أوزغور كوجا ❝ ❱.المزيد.. كتب جامعة كامبردج للنشر