❞ كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول) ❝  ⏤  علي سامي النشار

❞ كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول) ❝ ⏤ علي سامي النشار

في تمهيده شدّد النشار في أكثر من موضع على أنه من العوامل المساعدة في عبقرية المسلمين في المنهج التجريبي تفرغهم له بعد أن كفاهم القرآن “مسائل الميتافيزيقيا” وأن طبيعة العمل الذي تجب عليهم ” تحقيق الأفعال الإنسانية وتجنب المسائل الاعتقادية الجدلية” ص59 وهي النزعة التي سيطرت على جيل الصحابة كما يقول. والتي تنأى بالبحث في الشيء في ذاته أو الجوهر والأعيان، وهي الطريقة التي سار عليها الجيل التالي لهم إلا ما ندر، وهنا يعرض إلى إشكالية كون القرآن ميتافيزيقيا قائمة بذاتها، المطلوب قبولها دون الخوض فيها، فما هي الحاجة إذن إلى قيام المدرسة الكلامية وهي مباحث فلسلفية، فكيف إذن نوفق بين الأمرين.

ومن هنا تتضح الحاجة عنده لتفسير وجود المدرسة الكلامية الإسلامية وتفسيراتها الفلسفية، وهذا يستند في مجمله للعوامل الخارجية، مع عدم إغفال بعض العوامل الداخلية كما هو الشأن في حالة الخوارج مثلا.[7] وقد حدد العوامل الخارجية بالتأثير اليهودي والمسيحي و اليوناني والمذاهب الغنوصية الشرقية، أما العوامل الداخلية فقد حصرها في ثلاثة: 1- عوامل سياسية 2- عوامل لغوية 3- عوامل اقتصادية.



العوامل الخارجية

أولا: اليهودية. وقد تحدث بإسهاب عن الفروقات بين اليهودية والاسلام من حيث النظرة إلى الإله وطبيعة علاقته مع البشر، فيما كان اتفاقهما في عنصري الدين والشريعة، ومن هنا يلتقط بداية التأثر الفلسفي الإسلامي بالعامل اليهودي وهو بحث المفسر الإسلامي عن ما يؤيد ما جاء في القرآن، من خلال الرجوع للنصوص الدينية اليهودية كالتوراة[8] سواء في ما يخص إثبات البشارة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فيما لم يحرّف أو من خلال التأكيد على تحريف حصل في النصوص، التي لا تتوافق مع ما جاء في الوحي، ولأن اليهود اكتشفوا أن “قلعة المسلمين العقلية حصينة، وأن النزاع العقلي المباشر قد ينتهي إلى دحرهم وانقطاعهم” ص68 دعاهم ذلك إلى سلوك طريق الخفاء والسرية والعبث بعقائد المسلمين من الداخل، وكانت البداية من الفتنة الكبرى التي يرى نشّار أن عبدالله بن سبأ من مغذياتها، إضافة إلى أفكار كالرجعة، والنسخ والبداء وغيرها، التي كانت حافزا لقيام لبعض الفرق الغالية مثل الكيسانية، ولأنه كما صوره من فريق علي ابن أبي طالب كان الطرف الشامي أيضا ترصد له يهودي آخر! هو كعب الأحبار الذي كان يظهر بغض أهل الكوفة، وقد نشر السحر وعلوم الصنعة…[9]

ويمضي المصنف في ذكر الأثر اليهودي على الفكر الفلسفي الإسلامي هذه المرة من خلال الإسرائيليات التي دخلت في دائرة الحديث وأنتجت نصوص التشبيه والتجسيم وأحاديث عن أشراط الساعة والميعاد والمهدي المنتظر، وهذه المدخلات وغيرها حفزت على “قيام علم الكلام لنقض ما أدخلوه من عقائد مختلفة في صور أحاديث موضوعة” ص70 وهو من أدى إلى قيام علم مصطلح الحديث، مع التأكيد على أن اليهود ليسوا أصحاب فلسفة متماسكة بل هم عالة على اليونان، منمذجا بدور فيلون في هذا الصدد، ويبقى التراث اليهودي عرضة لتأثيرات بابلية وهندية شكلت في النهاية صورته من خلال مذهبي: الفريسيون والصدوقيون، ويخلص نشار إلى كون اليهودية خالية من البعد الفلسفي، وما وجد فيها إنما هو من تأثيرات خارجية من أهمها المدرسة الإسلامية، ويظهر تأثيرها في طائفة القرائين وداعيتها عنان بن داوود الذي تأثر بالمعتزلة[10]، وفي ما يخص “الربانيون” يمثل بشخصية سعدية الفيومي الذي أخذ مادته من المعتزلة ومنهجه من الأشعرية[11] وللفيومي عظيم الأثر في الفكر اليهودي بعده ومع هذا لم يكن “سوى تلميذ صغيرللمعتزلة” ص83

ويلاحظ في المجمل في ما كتبه نشّار في هذا المبحث الطويل أن معظم مادّته أو كلها إلا قليلا، هي في الحقيقة تتناول تأثير المدرسة الكلامية الإسلامية على اليهودية وليس العكس، كما يقتضي السياق المفترض لترتيب الكتاب، ولعل ذلك هو ما جعله يقرر “أن اليهود لم يؤثروا عقليا أو فلسفيا في المسلمين، ولكنهم نجحوا في إدخال عناصر تخريبية لدى الفرق الخارجة عن الإسلام” ص87 وأعطى مثالا على ذلك العيسوية، الذين يعتقد أنهم أصل للقرامطة[12] وعضد ذلك برأي فريق من الباحثين يذهب إلى كون هذه الفرقة اليهودية هي الباعث الأول للإسماعيلية.

ويمكن تلخيص نتيجة هذا الفصل بالدور الفتنوي لليهود في مسائل”الإمامة” ثم خوضهم في الذات الإلهية، من خلال الأحاديث الموضوعة،إلا أن اليهود ما لبثوا إلا يسيرا، حتى أصبحوا ضمن دائرة التأثير الفلسفي الإسلامي بشكل يكاد يكون شاملا[13].

ثانيا: المسيحية. وفي بداية الحديث عن هذا العامل الخارجي مهّد لذلك بحديث عن المسيحية وظهورها وكيف كان موقف الإسلام منها وأنه لم يكن صداميا، مبينا كيف قدم روايته الوسطية “وأعلن الاسلام إعلانا قاطعا، وفي إصرار عجيب أن معجزة ميلاد المسيح، لا ينبغي أن تصوّر في أي صور مغالية” ص91 وهذا الموقف هو ما تمت به مجابهة وفد نصارى نجران، والذين رأوا بحسب المؤلف عظم الهوة بينهم وبين الدين الجديد، وإن كانت أقل من الفجوة الكبيرة التي بين الإسلام وبين المسيحية في أقطار أخرى، وهي التي تشبعت من الفلسفة الهندية والإيرانية[14] واتسم الفكري بين الإسلام والنصرانية باللين والرفق، حتى عصر يوحنّا الدمشقي زمن الأمويين، ثم استعرض المصنّف أسماء بعض الشخصيات التي كان دور في الجدل الإسلامي النصراني حول العقائد من الجانبين، وبعض التعريفات التي قدمها علماء الإسلام لمفهوم المسيحية والمسيح كما فهموها من المصادر النصرانية ثم عرج على التعريف بالملكانية، النسطورية، اليعقوبية، وكيف وظّف الشهرستاني عقائد النسطورية لتنزيلها على واقع المعتزلة “تلك المحاولة التي يحاولها الشهرستاني من ربط مذهب المعتزلة بالمذهب النسطوري، ومحاولة مقارنة آراء أبي هاشم الجبائي بآراء نسطور” ص97 وهي المحاولة لم ترق للمصنف وأعاد سببها للخلاف المذهبي بين الشهرستاني الأشعري، وخصومه من المعتزلة وبالتالي فالخطأ في هذه المحاولة أكثر من الصواب.

بعد استعراض لأهم الفرق المسيحية والرد القرآني عليهم بالتفصيل تطرّق المؤلف لمناقشات بعض المسلمين لهم، أمثال أبي علي الجبائي والقاضي عبدالجبار، إلا أن تركيزه الأكبر كان من نصيب الباقلّاني في كتابه “التمهيد”[15] وهي المناقشة التي “أنتجت تفكيرا إسلاميا خالصا في الجوهر والعرض، وفي الجوهر والأقانيم، وفي الاتحاد والتجسم، وقدمت لنا فلسفة متناسقة مع القرآن، في مناقشاته مع المسيحية” ص100 فهذا الاحتكاك كما يشير المصنف دون أن يجزم به أدت إلى ظهور قضية الصفات والجدل الذي رافقها لأجيال وأجيال، وإن كان هناك اختلاف بين المتكلمين من الجانب الإسلامي والمسيحي فيما يخص المادة والمنهج.[16]

ويمكن القول: إن هذا العامل الخارجي في ظهور الفكر الفلسفي للمسلمين لم يحدد المصنف في ثناياه أي مثال حاسم مصدره المسيحية وخاصة أنه شكك في مصادر بعض معتقدات المعتزلة، كما ذكرها الشهرستاني، وقدم تفسيرا مختلفا لهذه المقولات وهذا ما يجعل هذا العامل بناء على توصيف المؤلف ضبابيا.

ثالثا: الفلسفة اليونانية. يبدأ هذا الفصل بالتأكيد على المباينة بين الإسلام والفلسفة اليونانية من حيث المنطلقات، فالتعارض بينهما جوهري، وفي مبحث انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، يفنّد رواية حرق مكتبة الاسكندرية على يد عمرو بن العاص، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، داعما تفنيده بعدد من القرائن[17] وهذا ما جعله يشكك في الرواية المنتشرة عن تاريخ نقل هذه الفلسفة، وأن ذلك حصل في العصر العباسي، وهذا لا يقلل من أهمّيته منذ زمن المأمون، وتأسيس بيت الحكمة في توثيق الصلات بين الفلسفة اليونانية والعالم الإسلامي، والدور الذي قام به المترجمون الأوائل( يوحنا بن ماسوية وحنين بن إسحاق وابنه وثابت بن قرة) نماذج ومن هؤلاء تلقى الكندي وابن كرنيب وأبو زيد البلخي ” وقد كان هؤلاء حقا كما يقول ابن تيمية، فراخ اليونان وتلامذة الروم” ص107 ويعيد نشّار تأكيد ما ذكره في بداية الكتاب، من نفي إسلامية فلسفة هؤلاء بل يعتبرهم تلاميذ أمناء للفلسفة اليونانية، التي دخلت الحيز الإسلامي في وقت مبكر مستشهدا بعدد من المصادر كما يعتقد أن الصلات بين اليونان والمسلمين أخذت أشكالا متعددة [18]، كما أنها كثيرا ما تمت عبر وسيط ثالث غالبا السريان، وهو ما جعل التراث المنقول عرضة للتشويه والتلفيق بين المذاهب اليونانية المتعارضة، وخاصة بين الآراء المشائية والأفلاطونية المحدثة، وهذا ما لم يتضح إلا بعد شروحات ابن رشد.

ويطيل نشّار النفس في تفصيلات هذه الصلة، وما أدت إليه من معرفة شبه كاملة بالفلسفة اليونانية، سواء بصورتها المشوّهة أو الحقيقية، ويؤكد على أن مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين أشاروا قبل نيتشه إلى المصدر الديني لتلك الفلسفة، ثم يكمل بذكر أهم المدارس كما تناولها المسلمون.



المدرسة الطبيعية: تناول المسلمون في دراساتهم هذه المدرسة وهي الآيونية، كما تحدثوا عن معلمها الأول طاليس، والفكرة الرئيسية التي ينادي بها أن المبدع الأول هو الماء، ومنه أبدعت الجواهر كلها “لكن سرعان ما يمزج الإسلاميون أقواله بأقوال أرسططاليس فالكواكب تدور حول المركز، دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل منه إليه وهذه أرسططاليسية واضحة” ص115 ولم يقف دور مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين عند هذا بل حاولوا تطويع نظريات الفلاسفة لتتوافق مع الدين والتوحيد بمفهومه الإسلامي، ضاربا لذلك أمثلة بتفسيرات الشهرستاني، وهو الأمر الذي يعلله نشار بمحاولة النقلة من المسلمين، تقديم صورة إيجابية عن هؤلاء “حتى يتقبل المجتمع الإسلامي هذه الآراء، وحتى لا يقف منها موقف العداء” ص116

وعند تناول شخصيات هذه المدرسة يقف طويلا عند نكسمندريس وأن الإسلاميين أخذوا صورة مشوّهة عن فكره “اللامتناهي” وجعلوه على طريقة الصفات الإلهية، رغم أن فكره قد وصل إليهم بشكل صحيح أيضا[19] إلا أنهم اختاروا الجانب التلفيقي المشوّه.

الفيثاغورية: وهذه المدرسة وصلت أفكارها بشكل جيد للمسلمين عن طريق المبشر بن فاتك وكتابه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) فقد قدم في كتابه شرحا وافيا لفلسفة الرجل وكذلك غيره من المصادر وخلاصته أن الأعداد هي أصل الموجودات “غير أن الصورة المشوهة لفيثاغورس ما لبست أن انتقلت إلى الإسلاميين، في صورة الفيثاغورية الجديدة” ص124 فتكون نتيجة ذلك ظهور المذهب الفيثاغوري الحديث، وهو مذهب خليط بين الأفلاطونية والفيثاغورية.[20]

ويذهب النشار إلى أن الفيثاغورية لم تجد قبولا يذكر لدى مفكري الإسلام إلا في رمزية العدد – اثنا عشر- كما هو حال الشيعة الإمامية، هذا في حالة التسليم بعدم وجود رابط من الوحي مع هذا العدد[21] إلا أن هذا الحكم يبقى صالحا لجمهور المسلمين، لأن أثر الفيثاغورية جلي في الإسماعيلية وإخوان الصفا وهي الفرقة التي حكم عليها السنة والشيعة بـ”وضعت لتقويض العقائد الإسلامية بما حوته من مذاهب يونانية وفارسية- أي غنوصية ونسبت دائما إلى الباطنية والقرامطة ولقد لعن المسلمون القرامطة والباطنية إلى يومنا هذا” ص129 كما أن البهائية في العصر الحديث تأثرت أيضا بالفيثاغورية الجديدة، هذا على مستوى الفرق الفكرية.

أما ما يتعلق بالأعلام فيرصد النشّار من خلال نقولات من مصادر متعددة عن من تأثر بالفيثاغورية من المحسوبين على المسلمين ويذكر منهم: محمد بن أبوبكر الرازي 310هـ ويحي بن عدي 364هـ وأبو زيد أحمد البلخي 322هـ كما أن للكندي هـ257 رسالتين في الفيثاغورية المحدثة.
علي سامي النشار - علي سامي النشار (1917‒1980) أحد كبار المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين، وكان عالمًا كبيرًا شافعي المذهب برع في علم الكلام، والفلسفة، والمنطق، حتى لقّبه البعض بـ«رئيس الأشاعرة في العصر الحديث».


حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1964م.
نال كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام عناية من الدارسين وكرّمته الدولة المصرية إذ نال جائزة الدولة التشجيعية عام 1965 اعترافًا بجهوده في تأصيل الدرس الفسلفي، وفي هذه الجائزة كما يقول الأستاذ محمد مصطفى حلمي تعبير صادق عما للكتاب من مكانة بين البحوث العلمية.

مؤلفاته:
صدرت أول مؤلفاته عام 1935م كتاب «الألحان الصامتة» وهو مجموعة قصصية، وقد نفدت في خلال عام، وكان قد طبع منها 1000 نسخة.
نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام.
مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي.
شهداء الإسلام في عهد النبوة.
نشأة الدين (النظريات التطورية والمؤلهة).
كتب قام بتحقيقها:

الشهب اللامعة في السياسة النافعة، لأبي القاسم بن رضوان المالقي.
بدائع السلك في طبائع المُلك، لأبي عبد الله بن الأزرق.
كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة، لعبد الله بن عبد الرحمن بافضل الحضرمي.
صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، لجلال الدين السيوطي.
عقائد السلف للأئمة أحمد بن حنبل والبخاري وابن قتيبة وعثمان الدارمي.
ديوان أبي الحسن الششتري.

من أقواله
يقول الدكتور النشار في تقديمه لكتابه «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» (الجزء الأول) «إننى كمفكر أشعري يرى أن عمله الأساسي في الحياة هو المحافظة على كيان المذهب الأشعري مذهب الجمهور العظيم من المسلمين، وأُنكر القول بأن المذهب الرشدي أقرب عقلا إلى روح الإسلام من مذهب الأشاعرة. إنني أرى أن الأشعرية هى آخر ما وصل إليه العقل الإسلامي الناطق باسم القرآن والسنة، وأن على المسلمين الأخذ بهذا المذهب كاملاً.»

وفاته
توفي في الرباط في 21 شوال 1400هـ الموافق أول سبتمبر 1980م، وقد لقي تقديرًا من الأوساط العلمية والرسمية بالمغرب، ونوهت الصحف والمجلات المغربية بمكانته عقب وفاته. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ شهداء الإسلام في عهد النبوة ❝ ❞ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول) ❝ ❞ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام.. الجزء الثاني ❝ ❞ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الثالث) ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.


اقتباسات من كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول)

نبذة عن الكتاب:
نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول)

في تمهيده شدّد النشار في أكثر من موضع على أنه من العوامل المساعدة في عبقرية المسلمين في المنهج التجريبي تفرغهم له بعد أن كفاهم القرآن “مسائل الميتافيزيقيا” وأن طبيعة العمل الذي تجب عليهم ” تحقيق الأفعال الإنسانية وتجنب المسائل الاعتقادية الجدلية” ص59 وهي النزعة التي سيطرت على جيل الصحابة كما يقول. والتي تنأى بالبحث في الشيء في ذاته أو الجوهر والأعيان، وهي الطريقة التي سار عليها الجيل التالي لهم إلا ما ندر، وهنا يعرض إلى إشكالية كون القرآن ميتافيزيقيا قائمة بذاتها، المطلوب قبولها دون الخوض فيها، فما هي الحاجة إذن إلى قيام المدرسة الكلامية وهي مباحث فلسلفية، فكيف إذن نوفق بين الأمرين.

ومن هنا تتضح الحاجة عنده لتفسير وجود المدرسة الكلامية الإسلامية وتفسيراتها الفلسفية، وهذا يستند في مجمله للعوامل الخارجية، مع عدم إغفال بعض العوامل الداخلية كما هو الشأن في حالة الخوارج مثلا.[7] وقد حدد العوامل الخارجية بالتأثير اليهودي والمسيحي و اليوناني والمذاهب الغنوصية الشرقية، أما العوامل الداخلية فقد حصرها في ثلاثة: 1- عوامل سياسية 2- عوامل لغوية 3- عوامل اقتصادية.



العوامل الخارجية

أولا: اليهودية. وقد تحدث بإسهاب عن الفروقات بين اليهودية والاسلام من حيث النظرة إلى الإله وطبيعة علاقته مع البشر، فيما كان اتفاقهما في عنصري الدين والشريعة، ومن هنا يلتقط بداية التأثر الفلسفي الإسلامي بالعامل اليهودي وهو بحث المفسر الإسلامي عن ما يؤيد ما جاء في القرآن، من خلال الرجوع للنصوص الدينية اليهودية كالتوراة[8] سواء في ما يخص إثبات البشارة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فيما لم يحرّف أو من خلال التأكيد على تحريف حصل في النصوص، التي لا تتوافق مع ما جاء في الوحي، ولأن اليهود اكتشفوا أن “قلعة المسلمين العقلية حصينة، وأن النزاع العقلي المباشر قد ينتهي إلى دحرهم وانقطاعهم” ص68 دعاهم ذلك إلى سلوك طريق الخفاء والسرية والعبث بعقائد المسلمين من الداخل، وكانت البداية من الفتنة الكبرى التي يرى نشّار أن عبدالله بن سبأ من مغذياتها، إضافة إلى أفكار كالرجعة، والنسخ والبداء وغيرها، التي كانت حافزا لقيام لبعض الفرق الغالية مثل الكيسانية، ولأنه كما صوره من فريق علي ابن أبي طالب كان الطرف الشامي أيضا ترصد له يهودي آخر! هو كعب الأحبار الذي كان يظهر بغض أهل الكوفة، وقد نشر السحر وعلوم الصنعة…[9]

ويمضي المصنف في ذكر الأثر اليهودي على الفكر الفلسفي الإسلامي هذه المرة من خلال الإسرائيليات التي دخلت في دائرة الحديث وأنتجت نصوص التشبيه والتجسيم وأحاديث عن أشراط الساعة والميعاد والمهدي المنتظر، وهذه المدخلات وغيرها حفزت على “قيام علم الكلام لنقض ما أدخلوه من عقائد مختلفة في صور أحاديث موضوعة” ص70 وهو من أدى إلى قيام علم مصطلح الحديث، مع التأكيد على أن اليهود ليسوا أصحاب فلسفة متماسكة بل هم عالة على اليونان، منمذجا بدور فيلون في هذا الصدد، ويبقى التراث اليهودي عرضة لتأثيرات بابلية وهندية شكلت في النهاية صورته من خلال مذهبي: الفريسيون والصدوقيون، ويخلص نشار إلى كون اليهودية خالية من البعد الفلسفي، وما وجد فيها إنما هو من تأثيرات خارجية من أهمها المدرسة الإسلامية، ويظهر تأثيرها في طائفة القرائين وداعيتها عنان بن داوود الذي تأثر بالمعتزلة[10]، وفي ما يخص “الربانيون” يمثل بشخصية سعدية الفيومي الذي أخذ مادته من المعتزلة ومنهجه من الأشعرية[11] وللفيومي عظيم الأثر في الفكر اليهودي بعده ومع هذا لم يكن “سوى تلميذ صغيرللمعتزلة” ص83

ويلاحظ في المجمل في ما كتبه نشّار في هذا المبحث الطويل أن معظم مادّته أو كلها إلا قليلا، هي في الحقيقة تتناول تأثير المدرسة الكلامية الإسلامية على اليهودية وليس العكس، كما يقتضي السياق المفترض لترتيب الكتاب، ولعل ذلك هو ما جعله يقرر “أن اليهود لم يؤثروا عقليا أو فلسفيا في المسلمين، ولكنهم نجحوا في إدخال عناصر تخريبية لدى الفرق الخارجة عن الإسلام” ص87 وأعطى مثالا على ذلك العيسوية، الذين يعتقد أنهم أصل للقرامطة[12] وعضد ذلك برأي فريق من الباحثين يذهب إلى كون هذه الفرقة اليهودية هي الباعث الأول للإسماعيلية.

ويمكن تلخيص نتيجة هذا الفصل بالدور الفتنوي لليهود في مسائل”الإمامة” ثم خوضهم في الذات الإلهية، من خلال الأحاديث الموضوعة،إلا أن اليهود ما لبثوا إلا يسيرا، حتى أصبحوا ضمن دائرة التأثير الفلسفي الإسلامي بشكل يكاد يكون شاملا[13].

ثانيا: المسيحية. وفي بداية الحديث عن هذا العامل الخارجي مهّد لذلك بحديث عن المسيحية وظهورها وكيف كان موقف الإسلام منها وأنه لم يكن صداميا، مبينا كيف قدم روايته الوسطية “وأعلن الاسلام إعلانا قاطعا، وفي إصرار عجيب أن معجزة ميلاد المسيح، لا ينبغي أن تصوّر في أي صور مغالية” ص91 وهذا الموقف هو ما تمت به مجابهة وفد نصارى نجران، والذين رأوا بحسب المؤلف عظم الهوة بينهم وبين الدين الجديد، وإن كانت أقل من الفجوة الكبيرة التي بين الإسلام وبين المسيحية في أقطار أخرى، وهي التي تشبعت من الفلسفة الهندية والإيرانية[14] واتسم الفكري بين الإسلام والنصرانية باللين والرفق، حتى عصر يوحنّا الدمشقي زمن الأمويين، ثم استعرض المصنّف أسماء بعض الشخصيات التي كان دور في الجدل الإسلامي النصراني حول العقائد من الجانبين، وبعض التعريفات التي قدمها علماء الإسلام لمفهوم المسيحية والمسيح كما فهموها من المصادر النصرانية ثم عرج على التعريف بالملكانية، النسطورية، اليعقوبية، وكيف وظّف الشهرستاني عقائد النسطورية لتنزيلها على واقع المعتزلة “تلك المحاولة التي يحاولها الشهرستاني من ربط مذهب المعتزلة بالمذهب النسطوري، ومحاولة مقارنة آراء أبي هاشم الجبائي بآراء نسطور” ص97 وهي المحاولة لم ترق للمصنف وأعاد سببها للخلاف المذهبي بين الشهرستاني الأشعري، وخصومه من المعتزلة وبالتالي فالخطأ في هذه المحاولة أكثر من الصواب.

بعد استعراض لأهم الفرق المسيحية والرد القرآني عليهم بالتفصيل تطرّق المؤلف لمناقشات بعض المسلمين لهم، أمثال أبي علي الجبائي والقاضي عبدالجبار، إلا أن تركيزه الأكبر كان من نصيب الباقلّاني في كتابه “التمهيد”[15] وهي المناقشة التي “أنتجت تفكيرا إسلاميا خالصا في الجوهر والعرض، وفي الجوهر والأقانيم، وفي الاتحاد والتجسم، وقدمت لنا فلسفة متناسقة مع القرآن، في مناقشاته مع المسيحية” ص100 فهذا الاحتكاك كما يشير المصنف دون أن يجزم به أدت إلى ظهور قضية الصفات والجدل الذي رافقها لأجيال وأجيال، وإن كان هناك اختلاف بين المتكلمين من الجانب الإسلامي والمسيحي فيما يخص المادة والمنهج.[16]

ويمكن القول: إن هذا العامل الخارجي في ظهور الفكر الفلسفي للمسلمين لم يحدد المصنف في ثناياه أي مثال حاسم مصدره المسيحية وخاصة أنه شكك في مصادر بعض معتقدات المعتزلة، كما ذكرها الشهرستاني، وقدم تفسيرا مختلفا لهذه المقولات وهذا ما يجعل هذا العامل بناء على توصيف المؤلف ضبابيا.

ثالثا: الفلسفة اليونانية. يبدأ هذا الفصل بالتأكيد على المباينة بين الإسلام والفلسفة اليونانية من حيث المنطلقات، فالتعارض بينهما جوهري، وفي مبحث انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، يفنّد رواية حرق مكتبة الاسكندرية على يد عمرو بن العاص، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، داعما تفنيده بعدد من القرائن[17] وهذا ما جعله يشكك في الرواية المنتشرة عن تاريخ نقل هذه الفلسفة، وأن ذلك حصل في العصر العباسي، وهذا لا يقلل من أهمّيته منذ زمن المأمون، وتأسيس بيت الحكمة في توثيق الصلات بين الفلسفة اليونانية والعالم الإسلامي، والدور الذي قام به المترجمون الأوائل( يوحنا بن ماسوية وحنين بن إسحاق وابنه وثابت بن قرة) نماذج ومن هؤلاء تلقى الكندي وابن كرنيب وأبو زيد البلخي ” وقد كان هؤلاء حقا كما يقول ابن تيمية، فراخ اليونان وتلامذة الروم” ص107 ويعيد نشّار تأكيد ما ذكره في بداية الكتاب، من نفي إسلامية فلسفة هؤلاء بل يعتبرهم تلاميذ أمناء للفلسفة اليونانية، التي دخلت الحيز الإسلامي في وقت مبكر مستشهدا بعدد من المصادر كما يعتقد أن الصلات بين اليونان والمسلمين أخذت أشكالا متعددة [18]، كما أنها كثيرا ما تمت عبر وسيط ثالث غالبا السريان، وهو ما جعل التراث المنقول عرضة للتشويه والتلفيق بين المذاهب اليونانية المتعارضة، وخاصة بين الآراء المشائية والأفلاطونية المحدثة، وهذا ما لم يتضح إلا بعد شروحات ابن رشد.

ويطيل نشّار النفس في تفصيلات هذه الصلة، وما أدت إليه من معرفة شبه كاملة بالفلسفة اليونانية، سواء بصورتها المشوّهة أو الحقيقية، ويؤكد على أن مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين أشاروا قبل نيتشه إلى المصدر الديني لتلك الفلسفة، ثم يكمل بذكر أهم المدارس كما تناولها المسلمون.



المدرسة الطبيعية: تناول المسلمون في دراساتهم هذه المدرسة وهي الآيونية، كما تحدثوا عن معلمها الأول طاليس، والفكرة الرئيسية التي ينادي بها أن المبدع الأول هو الماء، ومنه أبدعت الجواهر كلها “لكن سرعان ما يمزج الإسلاميون أقواله بأقوال أرسططاليس فالكواكب تدور حول المركز، دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل منه إليه وهذه أرسططاليسية واضحة” ص115 ولم يقف دور مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين عند هذا بل حاولوا تطويع نظريات الفلاسفة لتتوافق مع الدين والتوحيد بمفهومه الإسلامي، ضاربا لذلك أمثلة بتفسيرات الشهرستاني، وهو الأمر الذي يعلله نشار بمحاولة النقلة من المسلمين، تقديم صورة إيجابية عن هؤلاء “حتى يتقبل المجتمع الإسلامي هذه الآراء، وحتى لا يقف منها موقف العداء” ص116

وعند تناول شخصيات هذه المدرسة يقف طويلا عند نكسمندريس وأن الإسلاميين أخذوا صورة مشوّهة عن فكره “اللامتناهي” وجعلوه على طريقة الصفات الإلهية، رغم أن فكره قد وصل إليهم بشكل صحيح أيضا[19] إلا أنهم اختاروا الجانب التلفيقي المشوّه.

الفيثاغورية: وهذه المدرسة وصلت أفكارها بشكل جيد للمسلمين عن طريق المبشر بن فاتك وكتابه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) فقد قدم في كتابه شرحا وافيا لفلسفة الرجل وكذلك غيره من المصادر وخلاصته أن الأعداد هي أصل الموجودات “غير أن الصورة المشوهة لفيثاغورس ما لبست أن انتقلت إلى الإسلاميين، في صورة الفيثاغورية الجديدة” ص124 فتكون نتيجة ذلك ظهور المذهب الفيثاغوري الحديث، وهو مذهب خليط بين الأفلاطونية والفيثاغورية.[20]

ويذهب النشار إلى أن الفيثاغورية لم تجد قبولا يذكر لدى مفكري الإسلام إلا في رمزية العدد – اثنا عشر- كما هو حال الشيعة الإمامية، هذا في حالة التسليم بعدم وجود رابط من الوحي مع هذا العدد[21] إلا أن هذا الحكم يبقى صالحا لجمهور المسلمين، لأن أثر الفيثاغورية جلي في الإسماعيلية وإخوان الصفا وهي الفرقة التي حكم عليها السنة والشيعة بـ”وضعت لتقويض العقائد الإسلامية بما حوته من مذاهب يونانية وفارسية- أي غنوصية ونسبت دائما إلى الباطنية والقرامطة ولقد لعن المسلمون القرامطة والباطنية إلى يومنا هذا” ص129 كما أن البهائية في العصر الحديث تأثرت أيضا بالفيثاغورية الجديدة، هذا على مستوى الفرق الفكرية.

أما ما يتعلق بالأعلام فيرصد النشّار من خلال نقولات من مصادر متعددة عن من تأثر بالفيثاغورية من المحسوبين على المسلمين ويذكر منهم: محمد بن أبوبكر الرازي 310هـ ويحي بن عدي 364هـ وأبو زيد أحمد البلخي 322هـ كما أن للكندي هـ257 رسالتين في الفيثاغورية المحدثة. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

في تمهيده شدّد النشار في أكثر من موضع على أنه من العوامل المساعدة في عبقرية المسلمين في المنهج التجريبي تفرغهم له بعد أن كفاهم القرآن “مسائل الميتافيزيقيا” وأن طبيعة العمل الذي تجب عليهم ” تحقيق الأفعال الإنسانية وتجنب المسائل الاعتقادية الجدلية” ص59 وهي النزعة التي سيطرت على جيل الصحابة كما يقول. والتي تنأى بالبحث في الشيء في ذاته أو الجوهر والأعيان، وهي الطريقة التي سار عليها الجيل التالي لهم إلا ما ندر، وهنا يعرض إلى إشكالية كون القرآن ميتافيزيقيا قائمة بذاتها، المطلوب قبولها دون الخوض فيها، فما هي الحاجة إذن إلى قيام المدرسة الكلامية وهي مباحث فلسلفية، فكيف إذن نوفق بين الأمرين.

ومن هنا تتضح الحاجة عنده لتفسير وجود المدرسة الكلامية الإسلامية وتفسيراتها الفلسفية، وهذا يستند في مجمله للعوامل الخارجية، مع عدم إغفال بعض العوامل الداخلية كما هو الشأن في حالة الخوارج مثلا.[7] وقد حدد العوامل الخارجية بالتأثير اليهودي والمسيحي و اليوناني والمذاهب الغنوصية الشرقية، أما العوامل الداخلية فقد حصرها في ثلاثة: 1- عوامل سياسية 2- عوامل لغوية 3- عوامل اقتصادية.

 

العوامل الخارجية

أولا: اليهودية. وقد تحدث بإسهاب عن الفروقات بين اليهودية والاسلام من حيث النظرة إلى الإله وطبيعة علاقته مع البشر، فيما كان اتفاقهما في عنصري الدين والشريعة، ومن هنا يلتقط بداية التأثر الفلسفي الإسلامي بالعامل اليهودي وهو بحث المفسر الإسلامي عن ما يؤيد ما جاء في القرآن، من خلال الرجوع للنصوص الدينية اليهودية كالتوراة[8] سواء في ما يخص إثبات البشارة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فيما لم يحرّف أو من خلال التأكيد على تحريف حصل في النصوص، التي لا تتوافق مع ما جاء في الوحي، ولأن اليهود اكتشفوا أن “قلعة المسلمين العقلية حصينة، وأن النزاع العقلي المباشر قد ينتهي إلى دحرهم وانقطاعهم” ص68 دعاهم ذلك إلى سلوك طريق الخفاء والسرية والعبث بعقائد المسلمين من الداخل، وكانت البداية من الفتنة الكبرى التي يرى نشّار أن عبدالله بن سبأ من مغذياتها، إضافة إلى أفكار كالرجعة، والنسخ والبداء وغيرها، التي كانت حافزا لقيام لبعض الفرق الغالية مثل الكيسانية، ولأنه كما صوره من فريق علي ابن أبي طالب كان الطرف الشامي أيضا ترصد له يهودي آخر! هو كعب الأحبار الذي كان يظهر بغض أهل الكوفة، وقد نشر السحر وعلوم الصنعة…[9]

ويمضي المصنف في ذكر الأثر اليهودي على الفكر الفلسفي الإسلامي هذه المرة من خلال الإسرائيليات التي دخلت في دائرة الحديث وأنتجت نصوص التشبيه والتجسيم وأحاديث عن أشراط الساعة والميعاد والمهدي المنتظر، وهذه المدخلات وغيرها حفزت على “قيام علم الكلام لنقض ما أدخلوه من عقائد مختلفة في صور أحاديث موضوعة” ص70 وهو من أدى إلى قيام علم مصطلح الحديث، مع التأكيد على أن اليهود ليسوا أصحاب فلسفة متماسكة بل هم عالة على اليونان، منمذجا بدور فيلون في هذا الصدد، ويبقى التراث اليهودي عرضة لتأثيرات بابلية وهندية شكلت في النهاية صورته من خلال مذهبي: الفريسيون والصدوقيون، ويخلص نشار إلى كون اليهودية خالية من البعد الفلسفي، وما وجد فيها إنما هو من تأثيرات خارجية من أهمها المدرسة الإسلامية، ويظهر تأثيرها في طائفة القرائين وداعيتها عنان بن داوود الذي تأثر بالمعتزلة[10]، وفي ما يخص “الربانيون” يمثل بشخصية سعدية الفيومي الذي أخذ مادته من المعتزلة ومنهجه من الأشعرية[11] وللفيومي عظيم الأثر في الفكر اليهودي بعده ومع هذا لم يكن “سوى تلميذ صغيرللمعتزلة” ص83

ويلاحظ في المجمل في ما كتبه نشّار في هذا المبحث الطويل أن معظم مادّته أو كلها إلا قليلا، هي في الحقيقة تتناول تأثير المدرسة الكلامية الإسلامية على اليهودية وليس العكس، كما يقتضي السياق المفترض لترتيب الكتاب، ولعل ذلك هو ما جعله يقرر “أن اليهود لم يؤثروا عقليا أو فلسفيا في المسلمين، ولكنهم نجحوا في إدخال عناصر تخريبية لدى الفرق الخارجة عن الإسلام” ص87 وأعطى مثالا على ذلك العيسوية، الذين يعتقد أنهم أصل للقرامطة[12] وعضد ذلك برأي فريق من الباحثين يذهب إلى كون هذه الفرقة اليهودية هي الباعث الأول للإسماعيلية.

ويمكن تلخيص نتيجة هذا الفصل بالدور الفتنوي لليهود في مسائل”الإمامة” ثم خوضهم في الذات الإلهية، من خلال الأحاديث الموضوعة،إلا أن اليهود ما لبثوا إلا يسيرا، حتى أصبحوا ضمن دائرة التأثير الفلسفي الإسلامي بشكل يكاد يكون شاملا[13].

ثانيا: المسيحية. وفي بداية الحديث عن هذا العامل الخارجي مهّد لذلك بحديث عن المسيحية وظهورها وكيف كان موقف الإسلام منها وأنه لم يكن صداميا، مبينا كيف قدم روايته الوسطية “وأعلن الاسلام إعلانا قاطعا، وفي إصرار عجيب أن معجزة ميلاد المسيح، لا ينبغي أن تصوّر في أي صور مغالية” ص91 وهذا الموقف هو ما تمت به مجابهة وفد نصارى نجران، والذين رأوا بحسب المؤلف عظم الهوة بينهم وبين الدين الجديد، وإن كانت أقل من الفجوة الكبيرة التي بين الإسلام وبين المسيحية في أقطار أخرى، وهي التي تشبعت من الفلسفة الهندية والإيرانية[14] واتسم الفكري بين الإسلام والنصرانية باللين والرفق، حتى عصر يوحنّا الدمشقي زمن الأمويين، ثم استعرض المصنّف أسماء بعض الشخصيات التي كان دور في الجدل الإسلامي النصراني حول العقائد من الجانبين، وبعض التعريفات التي قدمها علماء الإسلام لمفهوم المسيحية والمسيح كما فهموها من المصادر النصرانية ثم عرج على التعريف بالملكانية، النسطورية، اليعقوبية، وكيف وظّف الشهرستاني عقائد النسطورية لتنزيلها على واقع المعتزلة “تلك المحاولة التي يحاولها الشهرستاني من ربط مذهب المعتزلة بالمذهب النسطوري، ومحاولة مقارنة آراء أبي هاشم الجبائي بآراء نسطور” ص97 وهي المحاولة لم ترق للمصنف وأعاد سببها للخلاف المذهبي بين الشهرستاني الأشعري، وخصومه من المعتزلة وبالتالي فالخطأ في هذه المحاولة أكثر من الصواب.

بعد استعراض لأهم الفرق المسيحية والرد القرآني عليهم بالتفصيل تطرّق المؤلف لمناقشات بعض المسلمين لهم، أمثال أبي علي الجبائي والقاضي عبدالجبار، إلا أن تركيزه الأكبر كان من نصيب الباقلّاني في كتابه “التمهيد”[15] وهي المناقشة التي “أنتجت تفكيرا إسلاميا خالصا في الجوهر والعرض، وفي الجوهر والأقانيم، وفي الاتحاد والتجسم، وقدمت لنا فلسفة متناسقة مع القرآن، في مناقشاته مع المسيحية” ص100 فهذا الاحتكاك كما يشير المصنف دون أن يجزم به أدت إلى ظهور قضية الصفات والجدل الذي رافقها لأجيال وأجيال، وإن كان هناك اختلاف بين المتكلمين من الجانب الإسلامي والمسيحي فيما يخص المادة والمنهج.[16]

ويمكن القول: إن هذا العامل الخارجي في ظهور الفكر الفلسفي للمسلمين لم يحدد المصنف في ثناياه أي مثال حاسم مصدره المسيحية وخاصة أنه شكك في مصادر بعض معتقدات المعتزلة، كما ذكرها الشهرستاني، وقدم تفسيرا مختلفا لهذه المقولات وهذا ما يجعل هذا العامل بناء على توصيف المؤلف ضبابيا.

ثالثا: الفلسفة اليونانية. يبدأ هذا الفصل بالتأكيد على المباينة بين الإسلام والفلسفة اليونانية من حيث المنطلقات، فالتعارض بينهما جوهري، وفي مبحث انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، يفنّد رواية حرق مكتبة الاسكندرية على يد عمرو بن العاص، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، داعما تفنيده بعدد من القرائن[17] وهذا ما جعله يشكك في الرواية المنتشرة عن تاريخ نقل هذه الفلسفة، وأن ذلك حصل في العصر العباسي، وهذا لا يقلل من أهمّيته منذ زمن المأمون، وتأسيس بيت الحكمة في توثيق الصلات بين الفلسفة اليونانية والعالم الإسلامي، والدور الذي قام به المترجمون الأوائل( يوحنا بن ماسوية وحنين بن إسحاق وابنه وثابت بن قرة) نماذج ومن هؤلاء تلقى الكندي وابن كرنيب وأبو زيد البلخي ” وقد كان هؤلاء حقا كما يقول ابن تيمية، فراخ اليونان وتلامذة الروم” ص107 ويعيد نشّار تأكيد ما ذكره في بداية الكتاب، من نفي إسلامية فلسفة هؤلاء بل يعتبرهم تلاميذ أمناء للفلسفة اليونانية، التي دخلت الحيز الإسلامي في وقت مبكر مستشهدا بعدد من المصادر كما يعتقد أن الصلات بين اليونان والمسلمين أخذت أشكالا متعددة [18]، كما أنها كثيرا ما تمت عبر وسيط ثالث غالبا السريان، وهو ما جعل التراث المنقول عرضة للتشويه والتلفيق بين المذاهب اليونانية المتعارضة، وخاصة بين الآراء المشائية والأفلاطونية المحدثة، وهذا ما لم يتضح إلا بعد شروحات ابن رشد.

ويطيل نشّار النفس في تفصيلات هذه الصلة، وما أدت إليه من معرفة شبه كاملة بالفلسفة اليونانية، سواء بصورتها المشوّهة أو الحقيقية، ويؤكد على أن مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين أشاروا قبل نيتشه إلى المصدر الديني لتلك الفلسفة، ثم يكمل بذكر أهم المدارس كما تناولها المسلمون.

 

المدرسة الطبيعية: تناول المسلمون في دراساتهم هذه المدرسة وهي الآيونية، كما تحدثوا عن معلمها الأول طاليس، والفكرة الرئيسية التي ينادي بها أن المبدع الأول هو الماء، ومنه أبدعت الجواهر كلها “لكن سرعان ما يمزج الإسلاميون أقواله بأقوال أرسططاليس فالكواكب تدور حول المركز، دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل منه إليه وهذه أرسططاليسية واضحة” ص115 ولم يقف دور مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين عند هذا بل حاولوا تطويع نظريات الفلاسفة لتتوافق مع الدين والتوحيد بمفهومه الإسلامي، ضاربا لذلك أمثلة بتفسيرات الشهرستاني، وهو الأمر الذي يعلله نشار بمحاولة النقلة من المسلمين، تقديم صورة إيجابية عن هؤلاء “حتى يتقبل المجتمع الإسلامي هذه الآراء، وحتى لا يقف منها موقف العداء” ص116

وعند تناول شخصيات هذه المدرسة يقف طويلا عند نكسمندريس وأن الإسلاميين أخذوا صورة مشوّهة عن فكره “اللامتناهي” وجعلوه على طريقة الصفات الإلهية، رغم أن فكره قد وصل إليهم بشكل صحيح أيضا[19] إلا أنهم اختاروا الجانب التلفيقي المشوّه.

الفيثاغورية: وهذه المدرسة وصلت أفكارها بشكل جيد للمسلمين عن طريق المبشر بن فاتك وكتابه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) فقد قدم في كتابه شرحا وافيا لفلسفة الرجل وكذلك غيره من المصادر وخلاصته أن الأعداد هي أصل الموجودات “غير أن الصورة المشوهة لفيثاغورس ما لبست أن انتقلت إلى الإسلاميين، في صورة الفيثاغورية الجديدة” ص124 فتكون نتيجة ذلك ظهور المذهب الفيثاغوري الحديث، وهو مذهب خليط بين الأفلاطونية والفيثاغورية.[20]

ويذهب النشار إلى أن الفيثاغورية لم تجد قبولا يذكر لدى مفكري الإسلام إلا في رمزية العدد – اثنا عشر- كما هو حال الشيعة الإمامية، هذا في حالة التسليم بعدم وجود رابط من الوحي مع هذا العدد[21] إلا أن هذا الحكم يبقى صالحا لجمهور المسلمين، لأن أثر الفيثاغورية جلي في الإسماعيلية وإخوان الصفا وهي الفرقة التي حكم عليها السنة والشيعة بـ”وضعت لتقويض العقائد الإسلامية بما حوته من مذاهب يونانية وفارسية- أي غنوصية ونسبت دائما إلى الباطنية والقرامطة ولقد لعن المسلمون القرامطة والباطنية إلى يومنا هذا” ص129 كما أن البهائية في العصر الحديث تأثرت أيضا بالفيثاغورية الجديدة، هذا على مستوى الفرق الفكرية.

أما ما يتعلق بالأعلام فيرصد النشّار من خلال نقولات من مصادر متعددة عن من تأثر بالفيثاغورية من المحسوبين على المسلمين ويذكر منهم: محمد بن أبوبكر الرازي 310هـ ويحي بن عدي 364هـ وأبو زيد أحمد البلخي 322هـ كما أن للكندي هـ257 رسالتين في الفيثاغورية المحدثة.



حجم الكتاب عند التحميل : 15.6 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول)

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول)
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
علي سامي النشار - Ali Sami Al Nashar

كتب  علي سامي النشار علي سامي النشار (1917‒1980) أحد كبار المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين، وكان عالمًا كبيرًا شافعي المذهب برع في علم الكلام، والفلسفة، والمنطق، حتى لقّبه البعض بـ«رئيس الأشاعرة في العصر الحديث». حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1964م. نال كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام عناية من الدارسين وكرّمته الدولة المصرية إذ نال جائزة الدولة التشجيعية عام 1965 اعترافًا بجهوده في تأصيل الدرس الفسلفي، وفي هذه الجائزة كما يقول الأستاذ محمد مصطفى حلمي تعبير صادق عما للكتاب من مكانة بين البحوث العلمية. مؤلفاته: صدرت أول مؤلفاته عام 1935م كتاب «الألحان الصامتة» وهو مجموعة قصصية، وقد نفدت في خلال عام، وكان قد طبع منها 1000 نسخة. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي. شهداء الإسلام في عهد النبوة. نشأة الدين (النظريات التطورية والمؤلهة). كتب قام بتحقيقها: الشهب اللامعة في السياسة النافعة، لأبي القاسم بن رضوان المالقي. بدائع السلك في طبائع المُلك، لأبي عبد الله بن الأزرق. كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة، لعبد الله بن عبد الرحمن بافضل الحضرمي. صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، لجلال الدين السيوطي. عقائد السلف للأئمة أحمد بن حنبل والبخاري وابن قتيبة وعثمان الدارمي. ديوان أبي الحسن الششتري. من أقواله يقول الدكتور النشار في تقديمه لكتابه «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» (الجزء الأول) «إننى كمفكر أشعري يرى أن عمله الأساسي في الحياة هو المحافظة على كيان المذهب الأشعري مذهب الجمهور العظيم من المسلمين، وأُنكر القول بأن المذهب الرشدي أقرب عقلا إلى روح الإسلام من مذهب الأشاعرة. إنني أرى أن الأشعرية هى آخر ما وصل إليه العقل الإسلامي الناطق باسم القرآن والسنة، وأن على المسلمين الأخذ بهذا المذهب كاملاً.» وفاته توفي في الرباط في 21 شوال 1400هـ الموافق أول سبتمبر 1980م، وقد لقي تقديرًا من الأوساط العلمية والرسمية بالمغرب، ونوهت الصحف والمجلات المغربية بمكانته عقب وفاته.❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ شهداء الإسلام في عهد النبوة ❝ ❞ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الأول) ❝ ❞ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام.. الجزء الثاني ❝ ❞ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (الجزء الثالث) ❝ ❱. المزيد..

كتب علي سامي النشار